logo
الثقافة العربية عائق أمام دولة القانون!![ 2]

بقلم : د.فيصل القاسم ... 27.11.2011

كما أن التواصل الاجتماعي في عالمنا العربي فيه جانب إنساني عظيم افتقدته مجتمعات أخرى، إلا أنه ساهم ويساهم بشكل مرعب أيضاً في عرقلة وإفساد دولة القانون التي وصلت إليها المجتمعات الغربية وغيرها، وأصبحت بفضلها في طليعة العالم. صحيح أن الاحتكاك الاجتماعي أمر إيجابي، ويحافظ على اللحمة الشعبية والإنسانية، إلا أنه أدى إلى التخلف وتأخير بناء دولة القانون في الكثير من بلادنا العربية بفعل الحسب والنسب والمحسوبية وصلات القرابة والصداقة، فقد تم استغلال تلك الأمور الإيجابية لأغراض سلبية للغاية.
ولدينا أمثلة مهولة على ذلك، فإذا كنت مثلاً تعرف الشخص المسؤول عن إدخال المرضى إلى عيادة الطبيب في المستشفى، فإنك ستدخل قبل غيرك حتى لو جئت قبل دقائق فقط، بينما ينتظر غيرك منذ ساعات. وإذا كنت تعرف شرطي المرور فإنه قد يعفيك من غرامة باهظة حتى لو اجتزت الإشارة الحمراء، وكدت أن تتسبب في حادث خطير، لا لشيء إلا لأنه قريبك أو من معارف العائلة القريبة أو البعيدة. وقد عرفت رجال شرطة يأتون إلى بيت ما لتسليم شخص فيه ضبطاً معيناً، لكنهم يمزقونه بعد أن يعرفوا أن أصحاب البيت من أصحاب أصحابهم. لا بل إن عدداً من أفراد الشرطة في إحدى البلدان جاءوا ذات يوم للقبض على شخص، فتبين لهم أن أباه متزوج من عائلة أحد رجال الشرطة المعنيين. فعادوا إلى المخفر وأخبروا الضابط المسؤول بأنهم لم يجدوا الشخص المطلوب في المنزل، هكذا بكل بساطة وخفة لا مثيل لها في العالم الذي يحترم نفسه. ولا ننسى أن الدوائر الرسمية تغص بالتجاوزات التي تحابي شخصاً على حساب آخر في المعاملة والخدمات لمجرد أن الموظف قريبه، أو ابن قريته، أو جاره أو من معارفه.
أتذكر أن شخصاً أوقف على أحد الحواجز، وتبين بعد تفتيشه أنه يحمل مخدرات، فتم وضعه في السجن فوراً، لكنه خرج بعد أيام لأن قريباً له توسط له لدى أحد المعارف في مكان ما، فتم إغلاق ملفه، ويا دار ما دخلك شر. وكم من الناس حصلوا على رخص سواقة زوراً وبهتاناً، مع أنهم يتقنون قيادة السيارة كما أتقن أنا قيادة الطائرة. ومع ذلك، نجحوا في الامتحان بقدرة قادر لأن الضابط المناوب وقتها كان ابن خالة جارتهم أم فلان دون حتى أن يركبوا السيارة.
حتى في عمليات التصويت غالباً ما نصوت للأقربين والمعارف حتى لو كانوا أغبى الأغبياء. ولا داعي للإشارة إلى أن الكثيرين يصوتون لابن العشيرة أو الطائفة أو القبيلة بدل التصويت لمن هو جدير بالمنصب في انتخاباتنا العربية المضحكة. فنحن لا نقدم الكفاءة على القرابة أبداً. المهم أن الذي أصوت له من معارفي أو أنسبائي أو بلدياتي.
على العكس منا، وربما بفضل انعدام التواصل الاجتماعي وعدم وجود لحمة اجتماعية وعائلية قوية، فقد نجح الغربيون وغيرهم في بناء دولة القانون التي يتساوى أمامها الجميع. فلو طلبت من ممرضة بريطانية قريبة لك أن تــُدخلك إلى عيادة الطبيب قبل غيرك لمجرد أنك قريبها، لربما اعتقدت أنك مجنون أو مخبول. فهي لن تـُدخل حتى أمها إلا حسب دورها في الطابور. ولو همست بأذن الشرطي الأوروبي، وقلت له إنك من قريته، وبالتالي لا بد أن يمتنع عن تسجيل مخالفة مرورية بحقك، لربما رفع عليك دعوى قضائية بتهمة الفساد أو عرقلة القانون. ولو وقفت أمام قاض غربي وقلت له إن عمك صديقه في سلك القضاء في المدينة، لربما سخر منك، وزاد لك العقوبة إذا كنت مذنباً. ولو ذهبت إلى إدارة الهجرة والجوازات في عاصمة غربية، وهمست بأذن الشخص الذي يستلم الطلبات بأن أخيك متزوج من قريبته الفلانية، وبالتالي لا بد أن يسرّع لك في إصدار الجواز، لربما ظن أنك تعاني من مرض نفسي خطير، ولربما رفض استلام الطلب كونك مختلاً عقلياً بنظره. ولو طلبت من جارك البريطاني أن يصوت لك في الانتخابات البلدية لمجرد أنك جاره، لربما اشتكاك إلى دائرة التصويت. ومن أجمل ما شاهدت في بريطانيا أن حتى أفراد العائلة الواحدة لا يخبرون بعضهم البعض لمن سيصوتون في الانتخابات. وكم تفاجئت ذات مرة عندما عرفت بطريقة ما أن أحد الأشخاص لم يصوت لصديقه في الانتخابات البلدية، لعلمه أنه غير جدير بالمنصب، مع العلم أنهما يتسامران ويلتقيان أكثر من مرة في الأسبوع في أحد البارات لاحتساء الجعة السوداء. فبينما درجة الخجل والمجاملة السخيفة بيننا نحن العرب تصل إلى مستويات مرتفعة للغاية، نجد أن الإنسان الغربي صريح جداً وبلطف، ولا يجامل، ولا يضيره أن يقول للأعمى إنه أعمى وستين ألف أعمى.
نعم لوجود ترابط اجتماعي وعائلي ومجتمعي في بلادنا العربية، لكن لا وألف لا لأن يؤدي ذلك إلى إبقائنا مجتمعات عشائرية وقبلية وطائفية وعائلية متخلفة لا تعرف للقانون مكاناً في حياتها. من المؤسف جداً أن تكون علاقاتنا الاجتماعية الوطيدة سبباً مباشراً للفساد والإفساد المنتشرين بين ظهرانينا كانتشار النار في الهشيم.
وطالما أنه ليس لدينا دولة القانون، سنظل مجتمعات متخلفة ومهزومة ومثاراً للسخرية والتهكم. ألم تقل غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل ذات يوم:"سأخاف من العرب فقط عندما أراهم يصعدون إلى الباص بالدور"؟


www.deyaralnagab.com