هل نصبح صادقين بعد الربيع العربي؟!
بقلم : د.فيصل القاسم ... 04.12.2011
يقول عبدالرحمن الكواكبي في تشريحه الرائع للطغيان " إن بالاستبداد يُضطر الناس إلى إباحة الكذب والتحايل والخداع والنفاق". هل من العجب إذن أن العرب هم من أكذب شعوب الأرض وأكثرهم تدليساً؟ ألم تصبح الحقيقة سلعة نادرة في مجتمعاتنا، وكل من يتفوه بها مصيره السجون؟ لماذا غدا مطلوب منا أن نكذب ونخفي مشاعرنا الحقيقية على الدوام؟ لقد غدا بإمكانك أن تعرف متى يكذب الإنسان العربي، إنه يكذب عندما يتكلم، أي أنه يكذب في أغلب الأحيان. ألم يصبح الكذب بالنسبة لنا الطريقة الأمثل لتوخي السلامة؟
كل شيء في ثقافتنا العربية أصبح مبنيا على النفاق والدجل، فإذا فسدت الحياة السياسية فلابد أن يفسد كل شيء معها. يقول كارل ماركس في مؤلفه الشهير رأس المال إن الاقتصاد يُعتبر البناء التحتي لأي مجتمع، أما البناء الفوقي فهو تلك الثقافة التي يفرزها البناء التحتي، بما في ذلك طبعا النظام السياسي والعلاقات الاجتماعية والثقافة السائدة. وإذا أردنا أن نطبق نظرية ماركس هذه بطريقة أخرى سنجد أن السياسة هي بمثابة البناء التحتي عندنا نحن العرب، وكل ما تفرزه من واقع اجتماعي وثقافي فهو بمثابة البناء الفوقي. وإذا كان الأساس التحتي فاسدا فلا عجب أبدا أن يكون الفوقي نسخة طبق الأصل. بعبارة أخرى، فإن السياسة لدينا هي أصل الداء والبلاء، أما أمراضنا الثقافية والاجتماعية فهي مجرد أعراض لذلك الداء.
لو زرت بلدا أوروبيا ذات يوم وشاهدت تلفزيوناتهم أو استمعت لإذاعاتهم وقرأت صحفهم فستأخذ الانطباع أن كل شيء لديهم خربان أو معطل، وأن هناك مشاكل في معظم مناحي حياتهم، مع العلم أن كل مصالحهم تسير بدقة ساعة روليكس، لكن وسائل إعلامهم تقف بالمرصاد لأي خطأ بسيط فتكبره وتضخمه كي يسمع به الجميع، ومن ثم يتلافوه أو يحلوه. إنهم لا يكذبون إلا ما ندر. أما إذا حدث وزرت بلدا عربيا وشاهدت التلفزيون المحلي فستأخذ الانطباع أنك في جنة عدن، فليس هناك أي حديث عن أخطاء ومشاكل بل هناك خطب مطولة عن "الإنجازات العظيمة" التي تحققت للمواطنين على أيدي القائد الملهم. وسائل إعلامنا تكذب ليل نهار وهي موجودة فقط للتستر على الأخطاء وليس فضحها، أي أن مهمتها الكذب ثم الكذب. إن الدولة العربية، كما تصورها وسائل الإعلام الرسمية، تسير بدقة متناهية، مع العلم أن كل شيء فيها معطل ومهترئ في واقع الأمر.
لقد عملت الأنظمة العربية على مدى الخمسين عاما الماضية على تشجيع ثقافة الكذب والتدليس والنفاق بحيث أصبح يتعذر على الإنسان أن يبوح بعواطفه الحقيقية. كيف لا نكذب وقد أصبح الكذب جزءا أصيلا من الثقافة العربية في عهد الديكتاتورية والاستبداد؟ فكلنا يعرف أن الإنسان العربي المسكين مضطر أن يقول عكس ما يضمره. فلا تصدقه دائما، فهو في الكثير من الأحيان يجانب الحقيقة تجنبا للقمع وإيثارا للسلامة، وإذا أردت أن تعرف الحقيقة منه فعليك أن تقلب كلامه رأسا على عقب أحيانا، فإذ قال لك مثلا إنه مستعد للتضحية بدمه من أجل الوطن فاعرف عندئذ أنه ليس مستعدا للتضحية بقرش واحد من أجل الوطن، وإذا قال لك إنه يموت في حب الحاكم، فاعلم أنه يفضل إبليس اللعين عليه. وإذا رأيته يضع صورة الزعيم في صدر منزله فهو يفعل ذلك خوفا من بطشه فقط، وليس حبا وهياما بفخامته أو سيادته، وكم شاهدت أناسا يبصقون على صور بعض القادة عندما يأمنون أنه لا أحد يراهم. لقد أصبح مفروضا على الإنسان العربي أن يحلف باسم الزعيم حتى وإن كان في نظره شيطانا رجيما. كيف لا نكذب ونحن ممنوعون من الحديث حتى عن أسعار الفجل والخس والفاصوليا الخضراء إلا بإذن من السلطات؟ وبما أن المواطن العربي لا يستطيع التعبير عن رأيه الحقيقي فلابد أن يكذب وينافق ويرتدي قناعا يخفي مشاعره الحقيقية.ألم يقل فرعون لا أريكم إلا ما أرى، أي أن المواطن يجب أن يرى الأشياء بمنظار الزعيم الفرعون فقط. وطالما أننا محرومون من حرية التعبير فسنظل نكذب ونكذب إلى يوم الدين.
لقد أصبح العربي النموذجي يخاف من أقرب المقربين إليه حتى من إخوته وذويه خشية أن يبلغوا عنه الأجهزة السرطانية، فيصبح في خبر كان. لهذا فهو مضطر أن يداري. فكما هو معروف، فقد تمكنت الدولة العربية التسلطية من جعل الكل يتجسس على الكل. وبالتالي لا يجد الإنسان أمامه إلا أن يراغم مشاعره ويبوح بعكسها. فعندما يذهب "الناخب العربي" إلى مراكز الاقتراع مثلا كي يدلي بصوته في الانتخابات العربية المفبركة من رأسها حتى أخمص قدميها فهو مجبر على أن يكذب ويتظاهر بالسعادة والفرحة الغامرة، لأنه شارك وقال نعم للمرشح الأوحد. لا بل إن بعض المواطنين المساكين يخشى ألا يكون قد كذب ونافق بما فيه الكفاية عند الإدلاء بصوته، فيقوم بغز إصبعه بدبوس صغير حتى يخرج منه الدم، ومن ثم يقوم بالتصويت بدمه على بطاقة الاقتراع التي لا تساوي ثمن الورق التي كُتبت عليه. فهو مضطر للمزايدة والمبالغة في تبجيل الزعيم وتمجيده حتى لو كان يكره الأرض التي يمشي عليها.لا مكان للشفافية في حياتنا السياسية أبدا. لكن الحاكم العربي يعرف تمام المعرفة في أعماق أعماقه أن الشعب ينافقه لا أكثر ولا أقل كي يحمي رقبته ويؤمن لقمة عيشه.
كلنا أمل أن تتلاشى ثقافة الكذب لدينا بعد الربيع العربي. وحتى إن لم تتلاش تماماً، فعلى الأقل فإنها ستخف تدريجياً، فلو نجحت الثورات في إقامة أنظمة ديمقراطية حقيقية، فإن منسوب الكذب في حياتنا سيتناقص كثيراً، خاصة أن أهم معالم الديمقراطية هي الشفافية والتعبير الحر. طوبى للذين يساهمون في تحريرنا من نقمة الكذب التي استبدت بنا منذ عقود. وطالما أن الكثير من الشعوب داس على قداسة حكامه في الثورات المباركة، فالأمل كبير جداً في نصبح أكثر صدقاً وصراحة في معظم مناحي الحياة.
www.deyaralnagab.com
|