الميرميّة إكسير الذاكرة
بقلم : رشاد أبوشاور ... 10.10.07
الميرميّة!
الاكتشاف العلمي الطبّي الذي توصّل إليه العلماء الباحثون في مركز بحوث النباتات الطبيّة في جامعتي نيوكاسل ونورثامبريا، أسعدني ...
أولئك العلماء توصّلوا مختبريّا، إلي أنّ (الميرميّة) مفيدة للاستجابات العصبيّة والذاكرة والحواس ...
في الميرميّة كما اكتشف أولئك العلماء الإنكليز مادة تبعد مرض الزهايمر عن البشر!
والزهايمر ليس مجرّد مرض رعاشي في البدن، أنه يفقد الإنسان الذاكرة، ومن الذين أصيبوا به الرئيس الأمريكي رونالد ريغن، الذي رحل من دنيانا وهو لا يعرف لا من هو، ولا ماذا كان، ولا إلي أية أمة ينتمي.
من الذين أصيبوا به البطل الأسطوري محمّد علي كلاي شفاه الله، وهو سيبقي بطلي المفضّل، والذي بعده انحطّت الرياضة النبيلة: الملاكمة ...
انتبهوا: العلماء الإنكليز أولئك اكتشفوا أن الميرميّة تنشّط الذاكرة، وتحسّن الوظائف الذهنيّة!
هذا الاكتشاف تحديدا: تنشيط الذاكرة، أدّعي أنني أمارسه منذ سنين بعيدة بواسطة الميرميّة ...
في طفولتي اعتدت أن أذهب مع أبناء مخيم الدهيشة إلي قريتي إرطاس والخضر، والتجوّل في التلال المحيطة ببيت لحم، والبرطعة علي التلال المشرفة علي تلك البلدات، والابتهاج بالدنيا خاصةً عندما تنّث السماء مطرا ناعما ينعش الأرض، ويبلل أجسادنا، فنتراكض حفاةً فرحين بهبوب النسائم الرطبة، المنعشة، المطيّبة برائحة الميرميّة ...
الرعاة وأصحاب الكروم، كانوا يضرمون نيرانا، يزكّونها بالميرميّة، فتتصاعد سحب دخان معطّر، تجعل الأرض والسماء وما بينهما حالة هذيان وسحر.
الحياة خضراء، والمدي أجراس، وغناء، وعزف نايات، وشجن مواويل فلاّحين يسوّرون حقولهم بـ(سناسل) من حجارة متدرّجة الألوان يرصوّنها بأناقة، لا ليحجبوا أشجارهم، ولكن ليجعلوا حقولهم متعة للناظرين.
أنا أشتاق لتلك الطبيعة بكّل عناصرها، للنشوة التي لم اكن أجهد نفسي في تفسيرها، أو إدراك كنـــــهها، ولكنني كنت أعيشها، واضعا روحي في حضنها، فهي أمّي وعائلتي أنا الذي بلا عائلة.
الميرميّة!
يستخدمها الفلسطيني في الشتاء عندما يرشّح، أو تدهمه نوبة سعال، أو تصاب معدته بأوجاع، أو لأسباب لا تفسير لها.
يطيّب شايه بالميرميّة شتاءً لأنها تدفئ صدره، وترفع حرارة جسده، وكم كنّا نحتاجها ونحن نعيش تحت الخيام في مخيّم (الدهيشة)، حين كنّا أشباه عراة بعد أن دهمت بلادنا الديمقراطيّة الصهيونيّة المباركة غربيّا!
في عّز الصيف، حين تعّن علي بالي تلك الأيام، وكي أعود إلي التفاصيل، ألجأ لإيقاظ ذاكرتي بتمامها، فأعدّ إبريق شاي، وأضيف عروق الميرميّة للشاي الجاف الذي يجعل الماء شايا أحمر عقيقي اللون، ولا أكتفي، فأنتقي أعوادا أضعها في الكوب وأصّب الشاي، ثمّ أرتشف علي مهل رشفات متتالية افتتاحيّة، وأغمض عيني، فتنثال التفاصيل من الذاكرة، تطلع مثل أوراق الميرميّة خضراء صغيرة مكثّفة، ثمّ تتضوّع في البصيرة والروح ونبضات القلب.
هذا العم أبوعليان، الذي ضربت سيّارة ابنه الطبيب الشاب وهو يعبر الشارع، إنه ينكش الأرض صامتا، وإذ يرانا يلوّح لنا بإشارة نفهم منها أنها دعوة لنا بالتوجه صوبه، فنذهب إليه، فيشير لنا أن نفرد أطراف قمصاننا، ليمنحنا قطوف العنب، أو ما تيسّر من التين، أو الخضار ..فكّل شيء في كرمه جعله سبيلاً عن روح ابنه الطبيب .. يرحمه الله!
كرمه هناك في المنعطف الذي يشرف علي برك سليمان، غير بعيد عن بوّابة الخضر، في طريق الخليل ...
الفلسطينيون يحرصون علي اقتناء الميرميّة، فحين كنّا في بيروت، وفي دمشق، كانت الهدية الثمينة الخاصة المتميّزة هي (شويّة) ميرميّة من (ريحة) البلاد ..من جبال الخليل، أو نابلس، أو بيت لحم أو .. رام الله، أو جنين، ويا عيني لو فزت بكمشة من ميرميّة جبل الكرمل، أو الناصرة ..
تنبت الميرميّة في سوريّة، ولبنان، والأردن، ولكن الفلسطينيين، دائما، وهذا ليس من قبيل التعصّب، حرصوا علي الحصول علي ميرميّة بلادهم، فكأنها تمنحهم حبلاً سريّا غير مرئي، يصل أرواحهم بتراب وطنهم، وبجذورهم، وبناسهم الباقين هناك.
بدون تنظير عرف الفلسطينيون أن ميرميتهم بنكهتها، بعناصرها، تنشّط ذاكرتهم الفرديّة والجمعيّة، وتغني انتماءهم، ففلسطين ليست أفكارا مجرّدة، إنها أرض وتاريخ وجغرافيا وبشر.
الميرميّة! الميرميّة أيتها السيدات أيها السادة، ليست مجرّد نبتة طبيّة، أو نبتة منكّهة للشاي، إنها ذاكرة وانتماء.
بعض الفلسطينيين يسمونها مريميّة نسبة إلي مريم العذراء، وبعضهم غنّي مغازلاً حبيبته التي حرم منها في الحياة الدنيا:
مرّي علي قبري بتطلع ميرميّة
يا تري: هل يشرب المفاوضون المزمنون ميرميّة؟ وإن شربوها فولكلوريّا هل تؤثّر في ذاكرتهم الممسوحة تماما؟!
الصهاينة يمنعون الفلسطينيين من جمع الميرميّة من غاباتهم، وحقولهم، ويفرضون عليهم عقوبات إن قبضوا عليهم متلبسين، وهم يصدّرونها إلي سويسرا لتستخدم في صناعات دوائيّة ...
ولكنني أحسب أنهم عرفوا سرّ علاقة الفلسطيني بالميرميّة، وهم يعملون علي حرمان ذاكرته منها، فهم يريدون فلسطينيين بلا ذاكرة ..
الميرميّة عنصر من عناصر تشبّث الفلسطيني بحّق العودة، ولذلك تراقب وتطارد طائرات الهليوكبتر من السماء، والدوريات المسلّحة علي الأرض، الفلسطينيين وهم ينتشرون في سهولهم ـ أقصد ما تبقّي منها ـ وتلالهم، وجبالهم، أفرادا وجماعات، سعيّا لجمع ما تيسّر من ميرميّتهم التي تنبت في أرضهم منذ ألوف السنين كما نبتوا وتكاثروا هم عبر العصور، رغم المحن، ومحاولات مسح ذاكرتهم ...
www.deyaralnagab.com
|