ما يَعجزُ الكلام!!
بقلم : د.علي شكشك ... 05.06.2012
لم يكن لا يعرف, ولكنه كان شرطاً لما سيأتي, يؤسس لمرحلة واعدة, باطنها أكبر من استعداد الوعي للقبول, وعنفُها أشرسُ من احتمال صفحات التاريخ, ممسكاً ومستأنساً بضمير شعبه في غربة الوحدة وفارق القوة وثقل التاريخ والأسطورة وواقعية الحلم, متجاوزاً آلامَ المنفى وحُبُكَ اشتباك أثقال المأساة, ينتقل بتؤدة في سيرورة التجاوز لمرحلة العلو اليهودي, ومحاولاً إحراج المشترك الإنساني بين الشرق وبين والغرب, لابتزاز حيّزٍ في الضمير أو علمٍ ونشيدٍ في الوجدان, فقط ربما يكفي الآن أن نثبّت صرختنا في الهواء أو أن نُشهر جرحنا في السماء, ونعرف أنّ حروباً كثيرة ستكون لا مفرَّ منها لتعبّد الطريق إلى أيِّ حارة في القدس, ودون أن يغرق في التحاليل والتنظير, فهي أكثرُ سطحية من باطن النور والنار واشتباك الزمان والمكان والإنسان في تلك الذروة من مكنون اضطرام الحب والحقد والغيرة وغرائز وأشواق الدنس والطهارة والعلو والإفساد, لامتلاك الكون المجسد في فلق الأشياء, عند الأبعاد الأخرى في الأرض التي باركنا فيها للعباد .
فالمرحلة مشتبكة مع وعد نابليون وكيمياء حركة الفكر والتنوير من مجاهل العصور الوسطى ومصالحة العهد القديم والجديد ومماحكات التنويريين والبيوريتانيين وتعقيدات القديسين ومعارك الفكر الأوروبية وتراتيل الكنائس البروتستانتية, وكراهية الجيتوهات اليهودية ونزق الملوك, أين تذوب النبوءة بالأسطورة ويتعانق النزوع للمجد والقداسة والطموح للألفية السعيدة برائحة الدم والنفط وثقافة العالم الجديد.
حين يتحول الهندي الأحمر إلى مجرد فروة رأس تباع مقابل عشرة دولارات, وحين يشير ريجان إلى حقيقة الوعد بأنّ القدس سوف تُدنّس تحت أقدامِ العامّة إلى أن ينتهي وقت هذه العامّة, وأنّ هذه النبوءة قد تحققت عام سبعة وستين عندما أُعيدَ توحيدُ القدس تحت العلم الإسرائيلي, وصحيح أنّ حزقيال قد تنبّأ بانتصار جيوش إسرائيل وحلفائها ضد قوى الظلام ولكن المسيحيين المحافظين لا يسمح لهم التطرف الروحي بأن يأخذوا هذا الانتصار كمسلمات ولذا فإنّ تقوية قوى الحق لتربح هذا الصراع المهمّ هو في عيون هؤلاء الرجال عمل يحقق نبوءة الله انسجاماً مع إرادته السامية وذلك حتى يعود المسيح مرة ثانية ليحكم الأرض ألف سنة", وحين يكون محور نقاشات بيجين مع ممثلي الكنائس الإنجيليكانية هو تأجيل تحول اليهود إلى المسيحية إلى وقت لاحق والتركيز الآن فقط على شروط عودة المسيح بدعم تهويد القدس وإعادة بناء الهيكل, وحين يقول رابين لياسر عرفات "إنه بالإمكان مجازاً التنازل عن يافا وحيفا, أما يهودا والسامرة فمن المستحيل الحديث عنها وهي التي تتمركز فيها كل الدعاوى والحجج التاريخية بصدد المقدسات والممالك اليهودية القديمة والتي يقوم عليها المشروع الإسرائيلي".
وحين يكون الجرح الفلسطيني هو المحصلة النهائية لاجتهادات تفاعلات الحروب ورحلات لورانس وآلاف الجمعيات والمؤسسات التي انتشرت كالجراد تمهد المناخ في جسد المنطقة وتحفر وعيه بالطاعون, وتكبله بالحاجات واليأس والاستشراق والابتسامات, فإنه لا مناص من اقتناص منطقة الشِّعر العميقة في أحلام الملايين, تلك التي أحد مفرداتها الثورة, إذ يصبح لا مجال إلا أن تقلب كلّ الأمور لينفرطَ الافتعالُ الطارئ بالترتيب والعسف, وتستقرَّ الأشياءُ بسجيّتها على جُوديّ الأشياء, ولذا كان ياسر عرفات اجتهادَ البداهة ضدّ أعقد أشكال المكر والمؤامرة في التاريخ, البداهة المنسجمة مع جوهر الحق وتلقائية الميل للعدل, فكان الأب قبل أن يكون الرئيس, وكان يكفي أن يبتسم في الحصار لينفرط الحصار, وكان يكفي أن يرفع يده بشارة النصر في وسط الخراب لتنبت في قلوب شعبه الأزهار, فقد كان يعرف الطريق, وحين كان كلينتون في كامب دافيد يحاولُ إقناعه بأنْ يدعَ القدس لليهود سأله: قل لي بصدق فأنت رجل مؤمن وقد رأيتك تصلي, ألا تؤمن بالهيكل؟, فردّ أنهم قد فتشوا وحفروا ما حفروا ولم يجدوا, وهل تؤمن أنت به؟, فأقسم كلينتون أنه يؤمن, وكان هذا ذروة سياسة الأسطورة, وقد عاد بعدها إلى مكنون الوطن وهو يعرف ما سيكون, ويؤسس لمرحلة واعدة, باطنها أكبر من استعداد الوعي للقبول, وعنفها أشرسُ من احتمال صفحات التاريخ, مستأنساً بضمير شعبه في غربة الوحدة وفارق القوة وثقل التاريخ والأسطورة وحتمية الحلم, وليقول لكلينتون - ما بقي له من أيّام - ما يَعجزُ الكلامُ أن يقول.
www.deyaralnagab.com
|