نتنياهو قلق على صحة البدو!!
بقلم : سهيل كيوان ... 15.12.2011
'وادي النعم'،اسم شاعري لمنطقة مأهولة بالعرب البدو، تقع في الجنوب الشرقي لمدينة بئر السبع عميقاً في صحراء النقب، وكي تستطيع التجول في تلك المنطقة وتتعرف على حياة أهلها وتعقيدات قضيتهم، لن يكفيك يوم أو يومان، بل عليك أن تقيم معهم أياماً...
تمنيت أن لا تتعطل سيارتي فكلما توغلت في الطريق أكثر ازدادت الأرض وعورة، الحصى أكبر والحجارة والأخاديد وخصوصاً حيث الأودية أكثر اتساعاً.
بعد أقل من ساعة قلت لـ(ممتاز) وهو اسم الشاب الجليلي المقيم في السبع منذ عشر سنوات بهدف التعلم والعمل والذي رافقني وكان دليلي: لو وُجدت عدالة على وجه الكرة الأرضية، لقامت هيئات محاربة التصحّر والتلوث البيئي الكوني ومؤسسات الاستثمار العقلاني للطبيعة والدولة بمنح هؤلاء الناس كافة أشكال الدعم المعنوية والمادية الممكنة. بسرعة يلفت نظرك التناقض بين الإهمال التام الذي يعاني منه هؤلاء الناس من قبل المؤسسة الرسمية واجتهادهم المتقدم، فكثيرون منهم يستغلون الطاقة الشمسية ويتزودون بالكهرباء منها بواسطة المرايا والمحوّلات الخاصة الباهظة الثمن خصوصاً أصحاب البقالات، ثم تشاهد جمع مياه الأمطار في واحات كثيرة اخضرت في مواجهة التصحّر، ثم شق الطرق وتذليل المعاصي والوديان بأقدام الإنسان والماشية، لكن ما يحدث هو بالعكس تماما فهم لا يقاومون شراسة الطبيعة فحسب، بل وشراسة الإنسان الطامع بأراضيهم، ويحرمهم من أي شيء ممكن أن يسهل وجودهم، حتى الطريق يمنعهم من تحسين ظروفه، ولا يتورع عن رش مزروعاتهم وحلالهم بالسموم، ليقتل النبات والحيوان ويقهر الإنسان ويرغمه على الهجيج.
في زمهرير الصحراء الليلي وحول موقد الحطب ودفء القلوب وسماحة الوجوه وأكواب الشاي المحلى كالقطر والقهوة المرة، لا تعرف من أين تبدأ قصة أهالي (وادي النعم)، فهي قصة فلسطين كلها، هل تبدأها من الإنذارات التي تأمرهم بإخلاء الأرض خلال ثماني وأربعين ساعة وإلا فالويل والثبور، أم تبدأ من الشيخ الجليل أحمد الزيادين (أبو فريح) ليحكي قصة الترحيل الأولى عام النكبة وتشظي العشائر بين فلسطين والأردن ومصر، أم قرار نقلهم بأمر عسكري من أراضيهم الأصلية المحاذية للحدود المصرية عام 1951 إلى هذا المكان الذي يريدون إعادة ترحيلهم منه، أم من تساؤل الشيخ وحزنه.. أين سيذهب هو وغيره بالآلاف من رؤوس الماشية التي يريدون حرمانها من مرعاها، أم من المروحيات العسكرية الثقيلة التي تجري تدريباتها العسكرية فوق وحول البيوت فتثير الغبار والضجيج وتخيف الصغار وتقلق وتقرف الكبار، أم من جدران المضافة (الشق) المزدانة بصور بعض الشيوخ، وغيفارا، عبد الناصر، ياسرعرفات، قبة الصخرة والقدس، بيانات للصحف، قصائد شعر باللهجة البدوية، وحبل من الأعلام الأردنية.. ولماذا الأردن!! فقال المضيف يوسف الزيادين (العزازمة)...لقد تشظت عشيرة العزازمة في عام النكبة إلى الأردن ومصر وما تبقى في فلسطين، ولي شقيق شيخ هناك، ولنا علاقات تواصل معهم، ونحتكم إليهم في كثير من القضايا الكبيرة، نذهب الى شيوخ سيناء أو الأردن لأخذ مشورتهم، شيوخ العزازمة في الأردن يقيمون في المفرق والكرك ومادبا والأغوار، وأنا شخصياً تعلمت الكهرباء في الأردن منذ ستة عشر عاماً، ولهذا أعلق أعلام الأردن.
ما يجري الآن على قدم وساق هو عملية ترحيل هائلة لتسعين ألف عربي في النقب يعيشون في خمس وأربعين قرية غير معترف بها مثل 'وادي النعم' بهدف نقلهم إلى تجمعات محاصرة وضيقة لا تلائم حياة البدوي وحلاله مثلما حصل مع مائة ألف من إخوانهم منذ سنوات حيث تم حصرهم في خمسة تجمعات أكبرها مدينة راهط.
ولهذا تظاهر الآلاف من العرب أمام مكتب رئيس الحكومة في القدس احتجاجاً وذلك يوم الأحد الأخير، وطبعاً لم يفتح (بيبي) شباك مكتبه، فهو يهدد دول المنطقة كلها بالتأديب والضرب ويستهتر حتى بأكبر رئيس دولة في العالم، ولربما أشار بيده إشارة واحدة تدل على استخفافه، فهو الذي تدخل شخصياً ومنع الاعتراف بقرية 'وادي النعم' بعدما كانت المحكمة العليا قد أقرّت لأهلها الحق في أن يكونوا بلدًا معترفًا به على أرضهم، إلا أن فخامته تدخل ليمنع بقاء أهل 'وادي النعم' في أراضيهم بحجة الحفاظ على سلامتهم من الخطر البيئي والتلوث الذي تسببه مصانع الكيماويات القريبة، طبعاً هذه حقائق مشقلبة، فمن يخشى على صحة البدو لا يمكن أن يفرط بصحة جنوده، فالحقيقة أن هناك مخططاً لبناء مدينة للجنود في المنطقة نفسها، فهل يغامر نتنياهو بصحة الجنود اليهود بينما تقلقه صحة البدو'!
لكل واحد منهم قصة أو قصص كثيرة، (ناصر) الذي ولد هنا قبل خمسين عاماً اكتشف قبل سنتين أنه لا يملك جنسية عندما دخل أحد المكاتب الحكومية، وعليه إثبات هذا الأمر من جديد، أما عبد الرحمن فهو مقيم في وادي النعم منذ عشرين عاماً ومتزوج من إحدى بنات العشيرة لكنه محروم من المواطنة لأنه من عزازمة قطاع غزة في الأصل، الشيخ علي أبو نصير يشعر بالخجل بعد أن هدموا مضافته (الشق) ويقول 'صرت أستحي من دعوة الضيفان بعد هدم الشق...' بينما يعثر الشيخ سليمان الحمامدة في أرضه التي يزرع فيها الشعير منذ ستين عاماً على لافتة تقول له 'دولة إسرائيل، الدخول إلى هذه الأرض ممنوع بتاتاً، من يخالف يتحمل كامل المسؤولية'.
ولكن أغرب القصص التي تحدثوا عنها هي أن مهووساً صهيونياً يعيش في أمريكا رأى مناماً بأن قدوم المسيح لن يتم قبل زراعة مليون شجرة على أراضي قرية عربية في النقب، وهذا لا يتحقق طبعاً إلا بعد طرد سكانها الأصليين، وهذا سيكون سبباً في الحرب بين اليهود والمسلمين وهكذا يقترب ظهور المسيح، القصة التي تحكى كنكتة تحولت إلى مأساة، مسؤولو صندوق 'الكيرن كييمت لإسرائيل' لم يكذّبوا خبراً وبدأوا بتنفيذ مشروع مدعوم من جمعيات أمريكية يحقق حلم الصهيوني الأمريكي المهووس، فزرعوا حتى الآن نصف مليون شجرة معظمها على أراضي قرية العراقيب شمالي السّبع، وفي طريقهم قتلوا قطعاناً من الماشية، وست عشرة رأساً من الخيل الأصيلة وآلاف الرؤوس من الماشية.
في الصباح التقي شيخاً سبعينياً ممشوق القامة ينافس الشباب في حركته وعنفوانه، له تقاطيع وجه حادة وعينان ناريتان، وشاربان رماديان قال لي بعد الحديث عن خسائره الكبيرة نتيجة رش الطائرات للمبيدات على أشجاره وحقوله وماشيته... أنا أصبت بالعقم ولم أعد قادراً على الإنجاب، كانت عيناه حزينتين ولكنهما تلمعان بذكاء...لم أعرف هل هو يمزح أم أنه جاد..فقررت مداعبته...كيف عرفت يا شيخ أنك أصبت بالعقم؟
فقال: في السنتين الأخيرتين تزوجت امرأتين ولم أنجب منهما، وهذا دليل إصابتي بالعقم بسبب سّموم طائراتهم...
كم عندك من الأبناء؟..
عندي ثلاث نساء وثمانية عشر ابناً وابنة لله...
الله يحفظهم يا شيخ تنجب ثمانية عشر ابناً وابنة وتريد من الصهاينة أن يكونوا متسامحين معك؟...
أعلى ما في خيلهم يركبونه...ونحن هنا...هنا قاعدون
www.deyaralnagab.com
|