رفقاً بالمستهلكين...حرام عليكم.. حرام!!
بقلم : د.فيصل القاسم ... 25.12.2011
ظللنا نسمع بالرأسمالية المتوحشة، ونقرأ عنها في الصحف والإنترنت، ونخاف من شبحها حتى خرج لنا عفريتها من الأسواق العربية التي كنا نعتقد أنها أسواق وطنية حنونة مقارنة بالأسواق الغربية الرهيبة، فإذ بها تتبارى مع الأسواق الرأسمالية الأم، وتتفوق عليها في الوحشية، بينما تغلبت علينا طبعاً نحن معشر المستهلكين بالضربة القاضية بجشعها وطمعها القاتلين.
لا أدّعي أبداً أنني خبير في الشؤون الاقتصادية والتجارية، ولا أكتب هنا من وجهة نظر العارف، بل من وجهة نظر المستهلكين المساكين الذين ضاقوا ذرعاً بوحشية الأسواق والتجار والمتحكمين بلقمة عيش الشعوب. وكي يكون الأمر قريباً من الناس العاديين أود هنا أن أجري بعض المقارنات بين الأسعار في أم الرأسمالية بريطانيا وبعض البلدان العربية التي أعرف أسواقها. فقد عشت في بريطانيا لاثني عشر عاماً، وكنت دائماً أحاول أن أقارن أسواقها ومعيشة أهلها بمعيشة أهلنا في بعض البلدان العربية، فكنت أتفاجأ بأن الذين كنا نسمع، ونقرأ عنهم بأنهم متوحشون رأسمالياً هم في واقع الأمر أكثر رحمة ورأفة بشعوبهم من تجارنا وحكوماتنا.
عدت إلى لندن قبل فترة وجيزة، وكنت أتوقع أن الأسعار هناك ربما طاولت عنان السماء بعد تلك الغيبة. وكنت أظن أننا في العالم العربي في نعمة من حيث الأسعار مقارنة بالعواصم الرأسمالية، فإذ بي مخطئ تماماً.
خلال وجودي في لندن كنت أشتري أكثر من نوع من الخبز أسبوعياً، خاصة أنني من هواة الخبز المصنوع من عدة حبوب المعروفة بالإنجليزية بـالـ multi cereal. وغالباً ما يكون هذا النوع من الخبز أغلى ثمناً بسبب تنوع الحبوب الداخلة في صناعته، لكنني تفاجأت أن هذا النوع من الخبر الذي يبيعوننا إياه في بعض البلدان العربية بأسعار خيالية سعره معقول جداً في عاصمة الضباب، ولا يكاد يتجاوز ثمن الربطة الواحدة جنيهاً إسترلينياً واحداً، ناهيك عن أنه أفضل جودة من الذي يصنعونه في العالم العربي بمرات ومرات. ولما عدت من لندن رحت أبحث عن ذلك النوع من الخبز المسمى بالإنجليزية Burgen، والحمد لله أنني وجدته، وكانت فرحتي به كفرحة الأطفال بألعاب العيد، لكن الفرحة لم تكتمل عندما اكتشفت أن سعر الربطة المستوردة الواحدة منه أغلى مما هي عليه في لندن بحوالي خمسة أضعاف، مما يجعل من يريد تناول هذا النوع من الخبز أن يخصص ميزانية خاصة للخبز فقط، علماً بأن الخبز عالمياً مفترض أن يكون أرخص السلع. طبعاً وبصراحة استنكفت عن شرائه، ليس فقط بسبب أن سعره أقرب إلى سعر الكافيار في بلادنا، بل لأنه يصلنا مجمداً، وبالتالي يكون قد فقد الكثير من مذاقه الأصلي.
ومن المثير للاستغراب أن بائع هذا النوع من الخبز في بريطانيا وغيرها من البلدان الأوروبية يدفع ضرائب للدولة على منتوجاته ومبيعاته، ومع ذلك فإنه يبيعه للمستهلك بأسعار معقولة جداً. أما عندنا نحن العرب، ففي كثير من الأحيان، خاصة في البلدان الخليجية، لا يدفع التاجر أي ضرائب للدولة، وبالتالي كان حرياً به أن يرحم المستهلكين، ويبيع السلع بأقل مما يبيعها التاجر الأوروبي الذي يدفع ضرائب. لكن العكس صحيح في حالتنا، فالتجار الجشعون لا يكتفون بأنهم لا يدفعون ضرائب، بل أيضاً يبالغون في تسعير سلعهم. قد يقول البعض إن هذا النوع من الخبز دفع عليه التاجر أجور الشحن من أوروبا. ومع ذلك، فهذه ليست حجة مقبولة، لأن أجور الشحن لا يمكن أن تضاعف سعره خمس مرات كي يصل إلينا.
وقد وجدت في بعض الأحيان أنه من الأفضل أن تشتري الكثير من الحاجيات والأدوات من أمريكا وبريطانيا عبر البريد السريع، حتى لو استغرق وصولها بضعة أيام، فتظل أرخص من الموجودة في أسواقنا بمرات. وقد اكتشفت ذلك عندما قارنت أسعار بعض ألعاب الأطفال المتوفرة في بلادنا العربية بتلك الموجودة في أمريكا، فوجدت أنه من الأفضل طلبها من بلاد العم سام، حيث توفر أحياناً أكثر من ستين بالمائة من ثمنها حتى بعد أن تكون دفعت حتى أجور الشحن بالطائرة. وحدث ولا حرج عن أسعار الأدوات الرقمية من كاميرات وحواسيب، فهي بنصف الثمن في الغرب وربما أكثر. وحتى الملابس الفاخرة فهي بربع الثمن أحياناً في العواصم الغربية خاصة في مواسم التنزيلات.
ومما يزيد في محنة المستهلك العربي أن عملية الاحتكار في بلداننا أسوأ بكثير من البلاد الغربية التي اخترعت الاحتكارات أصلاً، فهناك شركات وتجار محدودون يتحكمون بالأسواق عندنا، بحيث تختفي المنافسة، وبالتالي يختفي مزيد من الفلوس من جيوب المستهلكين.
والأنكى من ذلك أن بلدان الخليج الغنية تبقى الأسعار فيها أرخص مما هي عليه في بلد كالسودان وسوريا مثلاً. فرغم أن الحكومة السورية تدّعي تطبيق الاشتراكية، إلا أن المراكز التجارية الجديدة التي انتشرت في بعض المدن السورية في السنوات الماضية تجعل حتى السلع البسيطة كمعجون الأسنان والشاي الأخضر والشوكولاته وبعض مأكولات الأطفال المستوردة مواد كمالية لشدة ارتفاع أسعارها. فقد وجدت أن ثمن علبة معجون الأسنان الأجنبية في بعض المولات السورية أغلى مما هي عليه في بلدان الخليج مثلاً بثلاث مرات. هل يعقل أن تضطر لدفع عشرة دولارات ثمن علبة شاي أخضر عادي، مع العلم أن ثمنها الأصلي دولاران؟
وكم تفاجأت أثناء زيارتي للسودان أن الكثيرين هناك يتحينون فرصة الذهاب إلى دبي لشراء حاجياتهم لأنها أرخص مما هي عليه في السودان بمرات ومرات، مع العلم أنني كنت أتوقع أن تكون الأسعار في بلد يدعي العمل بالاقتصاد الإسلامي أرخص بكثير من البلدان الرأسمالية. لكن العكس صحيح، فمن المؤسف والمضحك أن بلدين كسوريا والسودان يدعيان تطبيق الاقتصاد الاشتراكي والإسلامي يفوقان الرأسمالية الغربية المتوحشة توحشاً بمرات ومرات من حيث ارتفاع الأسعار واستغلال المستهلكين المساكين. زد على ذلك أيضاً أن معدلات الرواتب في الغرب أعلى من مثيلاتها العربية بأضعاف مضاعفة. وفي كل مرة يحصل الإنسان العربي على زيادة بسيطة في الراتب، ترتفع الأسعار بعدها لتمتص الزيادة السخيفة. وللعلم أيضاً أن نصيب المواطن البريطاني من الثروة الوطنية أعلى بكثير من نصيب الإنسان العربي، مع العلم أن النظام الاقتصادي في بريطانيا رأسمالي متوحش، بينما عندنا إسلامي أو اشتراكي مزعوم.
لقد آن الأوان لأن تسمح الحكومات العربية بتأسيس جمعيات حقيقية لحماية المستهلكين العرب ومنحها صلاحيات رقابية مؤثرة كي تكبح جماح التجار والشركات المتحكمة بلقمة عيش الناس. كما يجب أن يُطلق العنان لوسائل الإعلام لأن تراقب حركة الأسواق وتفضح ممارساتها ووحشيتها في بلدان تعاني أصلاً من أوضاع اقتصادية خانقة.
www.deyaralnagab.com
|