logo
ملكات الحرير... يشربن ريح الأرض!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 06.08.2012

من قال إن ساقيْ هذا المصور المبدع وقد تعرضتا للشلل إثر رصاصة طائشة سنة 2006 في رام الله أقعدتا روحه أو شلتا التقاطات الصقر العاشقة في عين كاميرته اللعوب؟ أسامة السلوادي الذي شربت عيناه قوة ساقيه، جُبلت روحه في سفوح قرية سلواد، واختزنت ريحاً حنوناً لا تعصف بالناس والأرض، وإنما تحضن وجوه الفلاحين في الصباح، وتقبل أياديهم في المساء. الريح الحنون صارت تهب من صدور الناس وعيونهم باتجاه الأرض. يهيم عشقاً على كرسي متحرك في حقول الحصاد يصور الثوب الفلسطيني منزرعاً في الشجر، والتراب، والهواء، ناقلاً عناد الثوب وانشداده إلى عين الشمس جيلًا بعد جيل، وكبرياء إثر اعتداد، من ملكات كنعان ووصولاً إلى ستي "هادية" ابنة وادي فوكين والمتيمة بزيتون بيت لحم.
صبايا الأرض الطيبة يتضاحكن ويتطايرن في طول وعرض صور السلوادي ويلقين بأرواحهن وأجسادهن في حضن الريح وكأنها صارت سجادة سندبادية تتلوى فوق الحقول وتطير إلى ما لا نهايات الأشياء، ترصع في الهواء أثواباً تطرزت طوال ثلاثة آلاف سنة من الحب والبقاء. ريح القرية الحاضن، ولدنات الصبايا، وجوه الأجداد المحفورة بأخاديد بساتينهم وشجرهم، ابتسامات الأمهات الكبار... أمهات الكون، والعيون السود التي يتهاوى القمر في هواها، كل ذلك تلتقطه عيون السلوادي وتنشره في "ملكات الحرير". ترسم كاميرا المصور المبدع مئات اللوحات محورها الثوب الفلسطيني التقليدي وتطريزاته الحريرية الأليفة مُحتضَناً بروح محلقة في أفق الناس وريحهم وجذوع شجرهم العتيق. يأتي هذا الكتاب كبير الحجم والتصاوير وبالجهد الكبير فيه ليتربع فوق كتب مصورة عديدة، الثوب الفلسطيني موضوعها. الشيء المميز فيه أن صور ملكات الحرير هنا مأخوذة مع الأرض، ومن الأرض، وملفوفة برقة في أوراق التين، هدايا مفتوحة بكرم أهل البلاد الأبدي ومتروكة للمدى أمام الأبواب العتيقة والمفاتيح القديمة. "ملكات الحرير" هنا لسن "موديلات" مُنتقاة لا تراهن إلا في المجلات الصقيلة. إنهن العاديات الطبيعيات بلا تكلف ولا تصنع. تراهن في شوارع فلسطين وحواريها، ولأنهن كذلك فإنهن فاتنات الجمال! إنها عبقرية العادي وروعته.
ليست ثمة مبالغة أو انبهار زائد في كينونة هذا الثوب الذي انشقت عنه أرض فلسطين وأنبتته منذ عهد الناصرية الأولى وهزة النخلة التي ساقطت عليها رطباً جنياً. الثوب الفلسطيني يتقدم ببساطته ودقته الأزياء التقليدية في العالم إبداعاً وتألقاً وعراقة، وبسبب هذا كان هدفاً للاحتلال والسطو والاستيطان. حاولت إسرائيل السطو عليه ولا تزال، وفي كل مرة تحاول مؤسسة استيطانية ما سرقة بعض خيوط الحرير فيه وتفكيكه. وتردد كثيراً أن شركة طيران "العال" الإسرائيلية حاولت أن تتبناه زياً لمضيفاتها، لتسرقه وتقول للعالم إنه زي إسرائيلي تقليدي.
في تقديمه لملكاته يقول السلوادي إن كل تفاصيل الثوب الفلسطيني لافتة وأخاذة: "ألوانه الجذابة ورسوماته التي ترتبط بالمكان وبالشعب، تعود بنا إلى أجدادنا الأوائل، فالذي يمعن النظر في هذه اللوحات الفنية المطرزة بالحرير، سيجد لها عمقاً وبعداً تاريخياً وارتباطات وثيقة، فمنها ما يرتبط بالتاريخ، مثل رسومات الكنعانيين ومعابدهم وملابس ملكاتهم ومعبوداتهم وتجارتهم، ومنها ما يرتبط بالجغرافيا، مثل أشكال الطيور والزهور التي تنمو وتعيش في تلك المناطق. فقد برع الإنسان الفلسطيني منذ العصور القديمة في تخليد سيرته على شكل رسومات حيكت بشكل رائع على أثواب النساء، ظلت الجدات الفلسطينيات يتناقلنها حتى وصلت إلى الحفيدات". نلاحق هؤلاء الحفيدات من جليل فلسطين وحتى النقب، نراهن يوزعن ابتسامات الملكات مطرزة بكل تفصيلة من تفاصيل التاريخ منسوجة بالعنب ومنداة برذاذ قادم من البحر. هذا ثوب الشمال، وهذا حرير الوسط، وهذا طرز الجنوب. كأنما كل منطقة كانت قد ارتخت بتكاسل بين ماء المتوسط وماء الأردن أملت قصة محاريثها على التاريخ عبر تفاصيل الحرير على قامات نسائها الواثبة. ثمة شيء ما غامض ولذيذ في هذا الكتاب. زوايا التصوير وأمكنته: "زووم إن" على تفصيل تطريزة مبهرة الدقة في كتف صبية خلفها باب مصنوع من سنديانة وادعة ... "زووم آوت" على ملكة تطير فوق سنابل بيدر تدغدغها ونسمع صدى الضحكات في مدى لا مدى له. ابتسامات الصبايا، عري أقدامهن على السلاسل الحجرية، هبوب الريح يمسد شعور الملكات وحفيف أوراق الشجر يتراقص حولهن، ضحكات الحجّات الكبار في شارع قديم في بير زيت، الأهزوجة التي تلعلع بين الصور ونسمع رنينها، حفيف بيادر القمح التي تركض فيها مجموعة ملكات، إكليل الزنبق يتوج جبهة القمر، دبكات الجدات في الساحة، الطرحات البيض تجلل قوس الباب الحجري المتخمر، والأمل الكستنائي المنثور في كل طية لدلال خصر. هذا ما يجعل "ملكات الحرير" مميزات، ينزعن وشاح الإضافة والإبهار.
في تقديمها لملكات الحرير تقول د. هنيدة غانم الباحثة في العلوم الاجتماعية "هل نكشف سراً عندما نقول إن الثوب الفلسطيني يكشف عن كل ما نريد أن «نخفيه» بلغة مشفرة، ويخفي ما نريد أن نغيبه ونتناساه بذكاء وحكمة، والأهم أنه يرسم حدود الجسد وفقاً لخريطة القيم التي تحكم علاقة المجتمع بالمرأة- الأنثى. فالتطريز يزين منطقة الصدر والأكمام والسيقان بألوان زاهية متمايزة، ويخصها ويميزها بذلك لأنها مكامن الأنوثة وخريطة جسد متخيل يُحتفى به وبجماله، وهو يفعل ذلك من غير فجاجة وابتذال. لكن أيضاً من غير خجل مصطنع وشكلي. إن الثوب الفلسطيني المطرز الذي اعتادت جداتنا على التباهي به هو نقيض الثوب الحديث التقليدي الذي يغلب عليه لون واحد هو السواد أو الكحلي الغامق، الذي أخذ يحل محل الأول تدريجياً حتى استبدله".
أسامة السلوادي يعيد شد كل خيط حرير أراد الآخرون فك عقدته، أو أدى الإهمال الساذج إلى تراخي انشداده وتقوسه. كأنما يقول لصبايا فلسطين اليوم من لا تلبس هذا الحرير الطائر، ومن لا تمتلك ثوباً يصهر روحها في الريح ويزرع قدميها في الأرض فعليها أن تخجل. من لا تمتلك ثوباً مطرزاً يجعل ضحكتها أبهى من القمر ستحرمها الريح من الاحتضان، ولن تساعدها هضاب الأرض الطيبة على التحليق.


www.deyaralnagab.com