رحيل آخر القادة الكبار: بهجت أبوغربيّة!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 01.02.2012
مساء يوم الخميس 26 كانون ثاني رحل عن دنيانا، في العاصمة الأردنية عمّان، أحد أعظم القادة الكبار الذين أنجبتهم فلسطين: بهجت أبوغربيّة، الذي ولد في العام 1916 من القرن الماضي، قرن خروج بلاد العرب من عباءة التبعية العثمانية، للسقوط تحت الهيمنة البريطانية الفرنسية، وليبدأ عصر تقسيم بلاد الشام إلى دويلات، ووضع فلسطين رهينة بيد بريطانيا، تمهيدا لتسليمها لليهود الصهاينة، وغرس دولتهم خنجرا في قلب الوطن العربي.
فتح بهجت أبوغربية عينيه على وطن يضيع، وغزوة صهيونية تتسلل برعاية إنكليزية، فاختار مصيره بوعي، ومنذ طفولته المبكرة قرر أن يقاتل بأقصى طاقته لإنقاذ وطنه، وتخليصه من الاحتلال البريطاني، والأطماع الصهيونية، وساعده في ذلك أنه ترعرع في بيئة وطنية، فوالده وأخوته الأكبر منه لقنوه حب فلسطين، وكراهية أعدائها، فنشأ صلبا، عنيدا.
مع نهله العلم والمعرفة صقل وعيه، ونمّى هذا الوعي بالممارسة، فهو يرى الإنكليز في شوارع القدس، قلب فلسطين، التي استقرّت بها أسرته نهائيا، بعد مغادرتها للخليل، وهم يضطهدون أهلها، ويسومونهم أبشع أنواع الإذلال والامتهان، ويتلذذون بإهانة ناسها، وتكدير حياتهم، ويغضون النظر عن ممارسات عصابات الصهاينة الذين أخذوا يتجرؤون على قتل الفلسطينيين، واستباحة دمائهم بقصد نشر الرعب بينهم، ودفعهم للهرب من القدس وتركها لهم.
من يقرأ الجزء الأوّل من مذكرات القائد بهجت أبوغربية سيتعرّف على أحوال فلسطين في ثلاثينات القرن العشرين، وما اقترفه الإنكليز في فلسطين، وشتّى صنوف مقاومة شعبنا ببسالة، واندفاع بهجت الشاب ورفيق نضاله البطل سامي الأنصاري، وسعيهم لامتلاك مسدسين وبعض الرصاص، واشتباكهم مع عتاة الضباط الإنكليز الذين تفننوا في الاعتداء على أهل القدس، وقتل أبرزهم وأكثرهم خطرا، وتلقين صهاينة القدس دروسا في عقر أماكنهم الحصينة، وتحويل حياتهم إلى جحيم جزاءً لهم على ترويعهم لأهل القدس.
استشهد البطل الشاب سامي الأنصاري في اشتباك مع الدوريات الإنكليزية، وأصيب بهجت..ولكنه نجا، ليواصل بعد رحيل رفيق نضاله طريق الكفاح المسلح الذي آمن به (أبوسامي) وأوصى به خيارا رئيسيا لتحرير فلسطين، وظل يلح عليه، ويوصي به حتى آخر لحظات حياته.
تدرج (الأستاذ) بهجت، أو العم أبوسامي، في النضال، حتى تبوّأ مرتبة نائب القائد الفلسطيني الأسطوري عبد القادر الحسيني، والذي خاض معه معركة القسطل التي استشهد فيها عبد القادر وهو يقود المعركة، بعد عودته مخذولاً من القيادة العربية في دمشق التي حرمته من التزوّد بالسلاح لتحرير القسطل، وماطلته حتى اضطر للعودة إلى فلسطين وخوض معركة غير متكافئة مع الصهاينة، ومع ذلك تمكن هو ورجاله من أبطال الجهاد المقدس من سحق قوات الصهاينة، والوصول إلى قمة القسطل..وتحريرها، إلى أن اندفعت قوات صهيونية لا قبل للمجاهدين بهزيمتها، فاستشهد القائد، وجرح الكثيرون..وانفتحت الطريق أمام الصهاينة لاحتلال القدس الغربيّة!
بهجت أبوغربية الذي تتلمذ على الشيخ عز الدين القسّام، صديق عائلته، ومعلمه في المدرسة، شارك في ثورة فلسطين الكبرى التي كتب عنها بموضوعية في الجزء الأوّل من مذكراته، منصفا الفلاحين الفلسطينيين الأبطال الذين دوّخوا قوات الاحتلال البريطانية، وبرعوا في حروب العصابات، وتنقلوا بأسلحتهم القليلة المتواضعة من منطقة إلى منطقة، إلى أن خنقت الثورة التي يصفها الأستاذ بهجت بأنها حركة تحرر وطنية، بما يعتور حركات التحرر من سلبيات، ونواقص، و..غالبا افتقاد القيادة الواحدة، الصلبة، الواعية، القادرة على القيادة بتوحيد الجهود وحشد الطاقات.
بعد النكبة انتمى الأستاذ بهجت لحزب البعث، إيمانا منه بأن الوحدة العربية شرط لتحرير فلسطين، وناضل في صفوف الحزب لسنوات، تعرّض خلالها للاعتقال، والمطاردة، والاختفاء، وقيادة الحزب في ظروف العمل السري الصعبة، ببراعة، وصلابة، وذكاء.
عند تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية أصر مؤسس المنظمة الأستاذ أحمد الشقيري القائد الذي يحترم المناضلين، ويعرف قدرهم ومعدنهم، ولا يغيب عنه تاريخهم النضالي، والطاقات التي يتمتعون بها، على انضمام الأستاذ بهجت إلى رعيل المؤسسين، واستعان بصديقه المناضل الكبير عبد الخالق يغمور ليقنعه بأن المنظمة لن تكون تابعة لأي دولة عربية، وأنها ستكون لفلسطين..إلى أن اقتنع، فكان أحد البناة، وشارك في اللجنة التنفيذية، والمجلس الوطني الفلسطيني..واستقال بعد مشاركته في ثلاث لجان تنفيذية في العام 1991 من كل مواقعه عندما اعترفت قيادة (المنظمة) بالكيان الصهيوني، وانخرطت في مسيرة التسوية السياسية، وتخلّت عن الكفاح المسلح، وأدخلت القضية الفلسطينية في خيار أوسلو الكارثي.
عندما وقعت هزيمة حزيران 67 لم ييأس هذا الثائر المحترف، بل عمل على تأسيس جبهة النضال الشعبي مع بعض الوطنيين المقدسيين ومنهم الدكتور صبحي غوشه، ليندفع عشرات الشباب إلى صفوف الجبهة، وقد ارتفعت روحهم المعنوية بما يبثه فيهم هذا القائد الباسل العنيد الذي لم تنكسر إرادته حتى في أحلك ظروف الهزيمة، ورؤية الصهاينة يجتاحون القدس الشرقية، ويستكملون احتلال كل فلسطين.
من يقرأ مذكرات (أبوسامي) في جزئيها (في خضم النضال الوطني الفلسطيني) و(من النكبة إلى الانتفاضة 1949-2000) فإنه لن يقرأ مسيرة هذا الرجل الفذ، والقائد الميداني، والمثقف الثوري الكبير حسب، ولكنه سيقرأ تاريخ فلسطين المعاصر مكتوبا بالوقائع المعاشة الملموسة بحرارتها، وناسها، وأبطالها، وتفاصيل معاركها.
يوم الجمعة 27 كانون ثاني، كان يوما شتويا صاخبا، انطلقنا من مسجد الفيحاء في الشميساني، وجثمان (أبوسامي) ملفوف بالكوفيتين الفلسطينية والأردنية .. كيف لا، وهو شيخ المناضلين في الضفتين، كما لقبته الحركة الوطنية الأردنية. اتجهت قافلة المشيعين إلى جنوب عمّان، لدفن آخر أكبر القادة في مقبرة (سحاب).
غيوم تكاد تهبط على رؤوسنا، وريح عاتية تنوح وتدوّم حولنا، بينما الجثمان يرتفع على الرؤوس وسط الهتافات بعروبة فلسطين.. من شباب صغار السن تلقنوا وصية (أبوسامي) بالإيمان بعروبة فلسطين، كل فلسطين..كما كان يؤكد دائما.
في آخر زيارة لي بمناسبة عيد الأضحى، وكنت مع الصديقين عبد الله حمودة الذي كان بمثابة ابن له، ونواف الزرو، وجدناه متعبا، ولكنه يقظ العقل والروح كما عهدناه. كنا كلما استأذنا لتركه ليرتاح نفاجأ بأنه يشير بيده طالبا منا البقاء، وسائلاً عن آخر أخبار الأهل في فلسطين.
هذا الرجل، وكما أخبرني عبد الله حمودة، وقد بلغ ال 96 من عمره، تحامل على نفسه قبل أيّام وسجل لجهة إعلامية حلقات عن تاريخ الكفاح الفلسطيني، تاركا وصية للأجيال العربية كلها: بمواصلة الكفاح وبالسلاح لتحرير لفلسطين من نهرها لبحرها.
أي رجل عظيم هذا الذي عاش مرفوع الرأس، ورحل بوافر كرامته وكبريائه..حياة بسيطة، متواضعة، في بيت متواضع في منطقة (طبربور) مع الناس البسطاء الذين أحبهم دائما، وصدقهم العهد!
ونحن نتحلق حول القبر، سمعت أحدهم يهمس: تماما مثل يوم دفن الحكيم جورج حبش..يبدو أن الطبيعة تعبّر عن حزنها وألمها على رحيل الكبار!
بهجت أبوغربية آخر كبار القادة رحل..ولكن فلسطين التي وهبها عمره كاملاً باقية، وهي ستنتظر دائما من يتقدمون لتحريرها..من نهرها لبحرها، كما كان (أبوسامي) يؤمن حتى النفس الأخير.
www.deyaralnagab.com
|