logo
بلادنا وإن جارت علينا لئيمة!!

بقلم : د.فيصل القاسم  ... 19.02.2012

يتميز بعض العرب عن بقية شعوب الأرض بتلذذهم بالظلم والألم والعذاب والجور والاستغلال الذي يعانونه على أيدي أنظمتهم وحكوماتهم وجلاديهم. إنه نوع غريب من المازوخية العجيبة التي تحتاج إلى معالجة نفسية فورية. ولعل شعراءنا وفقهاءنا وبعض أدبائنا أسهموا بطريقة أو بأخرى في ترسيخ هذا الاستمتاع المرضي بالبطش والاضطهاد من باب أن الإنسان يجب أن يتحمل كل أنواع التنكيل التي ينزلها الوطن بساكنيه حتى لو داسهم ليل نهار وسامهم سوء العذاب. فالوطن في ثقافتنا العربية المريضة يتقدم على المواطن، والأرض العربية القاحلة الجرداء أهم من الإنسانية، ومسقط الرأس غال حتى لو أطار رؤوسنا وقدمنا طعاماً مفروماً للكلاب والقطط.
أما آن الأوان لتلك الجوقة العربية الزاعقة التي ترفع سيف الوطنية الصدئ في وجه كل من يحاول أن ينتقد الوطن وحكامه ويكشف عورات الأوطان وسرطاناتها المتقيحة أن تبلع ألسنتها وتكف عن المتاجرة بالمشاعر الوطنية "عمّال على بطـال"؟ أليس هناك من لديه الشجاعة لأن يقول لهؤلاء الغوغائيين الذين ينصرون الوطن ظالماً أو مظلوماً: إن "الوطنية هي الملاذ الأخير للسفلة والأنذال" كما صاح الأديب الإنجليزي سامويل جونسون ذات مرة؟
إلى متى نتشدق ببيت الشعر السخيف: «بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ وأهلي وإن جنوا عليّ كرامُ»؟ أليس مثل هذا الكلام الفارغ هو الذي أسهم في وجود الدولة التسلطية، ومنع تحقيق المواطنة بمفهومها الحديث في العالم العربي، وأعاق تقنين حقوق المواطن وتحديد واجبات الوطن وحكامه؟ إلى متى نردد العبارة المهترئة: «ما أجمل أن يموت الإنسان من أجل وطنه»؟ لماذا لا نقول: «ما أجمل أن يحيا الإنسان من أجل وطنه»؟ لماذا ترتكز ثقافتنا العربية المازوخية على الموت والعذاب لا الحياة والمتعة في جنبات الوطن؟ هل أخطأ أحد الساخرين عندما أعاد كتابة البيت الشهير المذكور آنفاً ليصبح: «بلادي وإن جارت علي حقيرةٌ... وأهلي وإن جنوا علي لئامُ»؟
متى نتعلم من الأمم الحية التي وضعت الوطن عند حدوده ولم تعامله كإله يجب تقديسه حتى لو أهانك وأذلك صبح مساء؟ هناك مثل إنجليزي شهير يقول: "إن الوطن حيث القلب". فإذا كنت تعيش وتحب بلداً ما حتى لو لم تولد به فهو وطنك الحقيقي وليس مسقط رأسك الذي أخذ على عاتقه تجريدك من آدميتك منذ اللحظة التعيسة الأولى التي خرجت بها من رحم أمك. ما الفائدة أن تعيش في وطنك غريباً؟ أليست الغربة الداخلية أصعب وأقسى عشرات المرات من الغربة الخارجية؟ لماذا أدرك الغربيون هذه الحقيقة بينما ما زال بعض مثقفينا الموتورين يؤنبون ويتطاولون على كل من ينبس ببنت شفة ضد أوطاننا المزعومة؟ إن المواطنة والديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان الحديثة هي التي جعلت المواطن الغربي يعتبر المكان الذي يعشقه هو وطنه الأصلي غير عابئ بالعواطف الوطنية التقليدية السخيفة.
للأسف الشديد لقد استطاعت الأيديولوجيات "القومجية" العربية أن تضحك علينا بشعاراتها الكاذبة على مدى أكثر من خمسين عاماً، وأرغمتنا على التظاهر بحب الوطن رغماً عن أنوفنا رغم أن أفئدة الملايين في هذا "الوطن العربي" الجريح كانت دائماً تتوق إلى أوطان خارج "الوطن" لعلها تحقق شيئاً من آدميتها المسلوبة. ليت الشعوب العربية تنبهت إلى مقولة الإمام علي بن أبي طالب «كرم الله وجهه» عندما قال في عبارته المأثورة الشهيرة: "ليس هناك بلد أحب بك من بلد، خير البلاد ما حملك". ليتها تمسكت بتلك النصيحة العظيمة في وجه حملات المكارثية القومية العربية التي حاولت دائماً أن تجرّم كل من يتذمر من سياطها "الوطنية" متهمة إياه بالخيانة القومية، مع العلم أن أكثر من خان الأوطان وسلمها للأعداء على أطباق من ذهب هم رافعو الشعارات الوطنية البائسة. وكما يقولون: الأمور دائماً بخواتيمها. ألم تصبح البلدان التي تشدقت على مر الزمان بالوطنية الساحقة الماحقة، ألم تصبح في الحضيض سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وغدت "ملطشة للي يسوى واللي ما يسواش"؟
لم تعد العبارات الوطنية "البايخة" تنطلي على أحد حتى وإن رددها هذه الأيام بعض المثقفين المزعومين السفسطائيين المزاودين على الحكومات العربية المتدثرة بثوب الوطنية الممزق في وجه التدخلات الخارجية. لقد غدت المشاعر الوطنية في "وطننا" العربي، وللأسف الشديد، كالمنتجات الوطنية التي تُعتبر عادة رديئة النوعية. ثم ألم يصبح عدد الذين يريدون هجرة "الوطن" العربي أكبر بعشرات المرات من الذين يريدون البقاء فيه؟ لماذا أصبحت كلمة "وطن" بالنسبة للكثيرين من العرب مفردة بالية؟
لماذا بعد كل ذلك نرى البعض يردد متهجماً على كل من يطالب العالم بمساعدة العرب في التخلص من طغيان حكامهم وإصلاح أنظمتهم الفاسدة من رأسها حتى أخمص قدميها، لماذا ما فتئ يردد مقولة المعتمد بن عباد الشهيرة:" لأن أكون راعي جمال في صحراء إفريقية خير من أن أكون راعي خنازير في بيداء قشتالة"؟ بينما نرى آخرين يتسلحون بالقول الشعبي:" زيوان بلدك ولا قمح الغريب". والزيوان هو نوع من الحبوب السوداء التي تمتزج بحبوب القمح ولا بد من إزالتها عند الطحين. ولا أدري لماذا يُطلب من هذه الملايين العربية المضطهدة والجائعة أن تقبل بزيوان الوطن بينما تستأثر الطبقات الحاكمة والمتحكمة ومن لف لفها بقمح الأوطان وحتى زيوانه؟ أي مازوخية أسوأ من هذه المازوخية العروبية القبيحة التي تحاول تغطية عين الشمس بغربال؟
تشير الدراسات والإحصاءات الاقتصادية إلى أن بعض الدول العربية، خاصة تلك التي صدعت رؤوسنا بالوطنية والاشتراكية والتوزيع العادل للثروة، مارست النهب والسلب والاستئثار بالثروات القومية أكثر من أي نظام رأسمالي متوحش في العالم، إلى حد أنها لم تترك لشعوبها حتى الفُتات أو القشور أو الزيوان كي تقبل به. لقد حرمت شعوبها حتى من نعمة الاستمتاع بالحبوب السوداء. فحتى ذلك نهبته واستغلته واحتكرته. وقد أكد أحد كبار الاقتصاديين العرب أن أقل من ستة بالمائة من الأثرياء والحيتان في بعض الدول العربية التي ترفع شعار الاشتراكية يملكون أكثر من خمسة وثمانين بالمائة من الثروة الوطنية. ومن سخرية القدر أن بعض الدول العربية "الاشتراكاوية" تفوقت على أعتى الرأسماليات الغربية في موضوع توزيع الثروة. ويشير أحد المختصين إلى أن نصيب العامل البريطاني من الثروة القومية مثلاً يفوق بعدة مرات نصيب العمال العرب في بعض الدول العربية التي تزعم تطبيق الاشتراكية وترفع شعار الدفاع عن العمال والفلاحين. ومن المعروف أن بريطانيا تعتبر من أكثر الدول الغربية رأسمالية واحتكاراً للثروة بحكم أن الرأسمالية ولدت في أحضانها. مع ذلك فهي لم تستطع المنافسة مع الرأسماليات العربية المتدثرة برداء الوطنية والاشتراكية المزيف. ويتحفوننا بعد كل ذلك بالأفكار الطوباوية الجميلة ويقحمونها على مسامعنا في وسائل إعلامهم ليل نهار. لماذا لا ينظرون حولهم قليلاً ليروا أن كليشهاتهم المهترئة لم تعد صالحة لا للتداول الوطني ولا حتى الأدبي؟
ألم ينقطع نتاج أدباء المهجر الذي كان مفعماً بحب الوطن؟ ألم يتحفنا هؤلاء من قبل بأروع الشعر وأعذبه في حب الأوطان والتغني بجمالها عن بعد؟ ألم تصبح أعمالهم الأدبية التي ألـفوها في ديار الغربة في أوروبا وأمريكا الجنوبية والشمالية وغيرها جزءاً لا يتجزأ من الأدب العربي الحديث؟ أين أمثال إيليا أبي ماضي وجبران خليل جبران وشفيق المعلوف وفوزي المعلوف وبدوي الجبل ونسيب عريضة؟ هل مات الأدب المهجري بسبب العولمة وسهولة الاتصال والسفر بين الدول فقط، أم بعدما أصبح العديد من الأوطان العربية طارداً لمواطنيه؟ لماذا أصبح شعار المغترب العربي "أنا مهاجر يا نيّالي"؟ لماذا لم يعد المهاجرون العرب يتذكرون الوطن بأشعارهم العذبة مثل ذلك البيت الشعري الرقيق لرشيد أيوب: «يا ثلج قد هيجت أشجاني..... ذكرتني أهلي وأوطاني... بالله قل عني لجيراني.... مازال يرعى حرمة العهد »؟ هل تبلدت أحاسيسنا الوطنية؟ لماذا لم نعد نسمع أبياتاً تقطر شوقاً وحنيناً إلى الأهل والأوطان؟ لنستمع إلى الشاعر اللبناني المهاجر فوزي المعلوف قبل الرحيل إلى بلاد الاغتراب:
مناديلُ من ودعّتُ يخفِقن فوقهم
فلا ترهقيهم يا سفينة اقلعي
بَعُدن فغشّاهن دمعي
كأنني أراهن من خلفِ الزجاج المُصّدع
لماذا انعكست الآية الآن؟ لماذا " تغرورق" عينا الإنسان العربي بدموع الحزن والأسى عندما يريد أن يعود إلى أرض الوطن؟ ربما لأن المنفى تحول إلى وطن حقيقي والوطن إلى منفى بعد أن أكل معظم أنظمتنا "الوطنية" الحاكمة وحاشياتها القمح وأغلب الزيوان!!


www.deyaralnagab.com