logo
أبونا الياس زحلاوي

بقلم : رشاد أبوشاور ... 15.11.07

الأب الياس زحلاوي رجل دين، لا يترفّع عن الواقع بأسئلة روحانيّة سماويّة بعيدا عن أسئلة الحياة التي تهّم وتشغل الناس العاديين، فهو إنسان يعيش الحياة مع بني وطنه، وكّل الناس علي هذه الأرض، في عصر يزخر بالمتناقضات، والظلم، والحروب، والفتن، وتسيّد الشّر.
لا يحبس الأب الياس نفسه بين جدران الكنيسة، مترفعا عن شؤون الحياة اليوميّة لأبناء وطنه وأمّته العربيّة، بكّل همومهم: الوطنيّة، والقوميّة، والاجتماعية، والإنسانيّة...
تشغله فلسطين، ولقمة خبز الناس المحرومين الجائعين، وسؤال الحريّة كشرط أساس لإنسانيّة وآدمية الإنسان. يلّح عليه سؤال وحدة الأمّة التي تفترسها الإقليميّة، وتتهددها الطائفيّة الجاهلة، واستبداد أمريكا في زمن قادتها الطائشين الحمقي وفي مقدمتهم: بوش الإبن مقترف جريمة العراق.
عرفته في مطلع السبعينات، وإعجابا به، استوحيت شخصيّة الأب الياس في روايتي (العشاق)، التي صدرت طبعتها الأولي عام 77.
أدهشني حين تعرّفت به أنه رجل مسرح، يكتب ويتابع شؤون المسرح، وأنه معني بنهضة مسرحيّة دفعته إلي ترجمة تاريخ المسرح العالمي، وصدوره في خمسة أجزاء عن وزارة الثقافة السوريّة.
مسرحيته التي شدّت انتباهي كانت (المدينة المصلوبة) وهي تدور حول مدينة القدس، وقد أخرجها سمير سلمون الذي رحل شابا يرحمه الله، وهو الاسم الذي ارتبط بمسرحيات أبونا الياس، وتألّق في إخراجها.
مسرحيته (وجبة الأباطرة) عمل شجاع، عالج في فصولها سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة، وانتهاء مجدها ببيع منصب القيصر لتاجر قدّم وجبة عشاء لجنود وضبّاط معسكر حامية روما التي انهارت، وأفل مجدها بسبب الظلم، والفساد، وهيمنة عقلية العسكر.
أبونا الياس جعل من (الكنيسة) مكانا للثقافة والحوار، والتآخي المسيحي الإسلامي، انطلاقا من المواطنة، والانتماء لأمة واحدة.
دعا (أدونيس) و(نزيه أبوعفش) وكثيرين من الشعراء، والكتّاب، كنت أحدهم، للحديث في الأدب، وتقديم تجاربهم، ورؤاهم، وطرح وجهات نظرهم في هموم الناس وشؤون الثقافة والفكر، لجمهور وجد في الكنيسة فضاءً ثقافيّا رحبا، وليس مجرّد مكان طقسي للصلاة.
عني الأب الياس ببعض المبدعين الشباب آنذاك، ومنهم من لمع في سنوات قليلة، وهنا أتذكّر الراحل جميل حتمل.
أبونا الياس يكتب في الصحافة العربيّة منذ خمسة عقود، وله دراسات فكريّة واجتماعيّة ودينيّة.
صدر له علي مدي أربعين عاما 18 كتابا بالعربيّة، وكتابان بالفرنسيّة.
هو واحد من أسماء كبيرة يمنحوننا الثقة بأن رجل الدين يمكن أن ينخرط في العمل الوطني، والاجتماعي، وأن يسخّر جهده ووقته وفكره للتأثير في عقول الناس، وضمائرهم، وأخلاقياتهم، وتلمّس حقوقهم، ودورهم، وواجباتهم تجاه أنفسهم، ووطنهم، بل والإنسانية جمعاء، لتكون الحياة أجمل وافضل، وأكثر قيمة.
وأنا أكتب عن الأب الياس، أستذكّر المطران السيّد هيلاريون كبوتشي ـ الأب الياس صديقه ـ والأرشمنديت عطا الله حنّا بطل تعريب الكنيسة الأرثوذكسية، ويرد إلي خاطري المطران حجّار اللبناني الذي عاش في فلسطين، وكان دائما في مقدمة التظاهرات، والتحركات، ضد بريطانيا وانتدابها، والتغلغل الصهيوني الخبيث.. ولا يغيب عن فكري أنا وكثيرين الأنبا شنودة بمواقفه الوطنيّة المتميّزة، ناهيك عن عدد كبير من رجال الدين العرب المسيحيين اللامعين حملة الرسالة، دعاة التآخي في الله والوطن.
الأب الياس كاثوليكي، وهو دائما يردد أمامي، وبحضور كثيرين: نحن طائفة شرقيّة بتوقيت غربي.
هذا الكلام يفصّله الأب الياس في كتاباته: نحن ننتمي لهذه الأرض، لهذه الأمة العربيّة، والمسيحيّة بدأت هنا، وانطلقت من هنا، ونحن لا نستورد مسيحيتنا.
فلسطين حاضرة في قلب وعقل الأب الياس زحلاوي. كتب لها في المسرح، ولها وعن مأساتها كتب عشرات المقالات والدراسات، وألّف كتابه الهام: (من أجل فلسطين)، الذي صدر عام 2004.
العام 2006 صدر كتابه (أمن أجل فلسطين وحدها؟) عن مركز الغد العربي للدراسات الذي يشرف عليه المناضل الكبير جورج حبش، والذي يمكن اعتباره الجزء الثاني المتمم لكتاب (من أجل فلسطين)، فهذا الكتاب يتجوّل في مواضيع شتّي مركزها فلسطين، وانتفاضة شعبها التي يمجّدها كثيرا، وقضايا المجتمع في سوريّة، والحريّة كقضيّة إنسانيّة يرفض استلابها تحت أي حجّة، ورفضه للاحتلال الصهيوني، والعدوانيّة الأمريكيّة البوشيّة، والعدوان علي العراق، وهو ينحاز للمقاومة اللبنانيّة، ويلّح في المقالات التي يضمّها كتابه هذا علي أن المقاومة حّق مشروع، بل واجب علي كل إنسان أن يقاوم لنيل حريّته بكّل ما يستطيع.
في كتابه هذا يدافع الأب الياس عن حّق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلي قراهم ومدنهم، ويعلي من قيمة الانتفاضة كفعل إنساني يبرهن علي عظمة شعب فلسطين.
الأب الياس رجل دين، وكاتب شجاع، فهو يدين الغرب الاستعماري. يكتب في احدي مداخلاته في الكتاب عن صمت الكنيسة، وعن جرائم هذا الغرب: كانت الانتفاضة ماثلةً في مجمل حديثنا، إذ كنت أطرح بقوّة سؤالاً ملّحا حول صمت المجتمع الغربي برمّته، وصمت الكنيسة الغربيّة، وكنت أدين بقسوة الصمتين.
يدرك الأب الياس زحلاوي أن حوار الثقافات، والحضارات، والأديان يفترض أن يبدأ في البيت الواحد، ولذا يحرص دائما علي التقريب بين المسيحيين والمسلمين العرب، فهو لم يتوقّف عند كتابة المسرح، وترجمة الشعر المنحاز للإنسان، ودعوة كثير من المبدعين العرب للتحدّث في فضاء الكنيسة، وجمع فرق إنشاد إسلاميّة ومسيحيّة، لتنشد معا لله الواحد، وحب وطن في الفضاء الكنسي الرحب، وهو بهذا يسهم بكسر العزلة، يمدّ جسرا وطيدا بالغناء والموسيقي، والشعر، والحوار، والتعارف المباشر بين الأهل.
هذا الرجل يحمل رسالة، وهو رغم دخوله ـ أمدّ الله في عمره ـ السنوات الأولي من عقده الثامن ـ من مواليد دمشق عام 1932 ـ فهو يحمل روحا تتقد وتضيء وتشّع ثقافة ووطنيّة وعروبة ومحبةً لفلسطين.
أمن أجل فلسطين وحدها ؟ يتساءل الأب الياس، وهو بمقالاته، وحواراته يجيب: من أجل فلسطين، ووحدة الأمّة، وكرامة الإنسان العربي، ودور إنساني عادل وشجاع للكنيسة، وعلاقات صحيحة محترمة بين الدول، ورفضا للهيمنة والاستبداد.. و... أليست كلّ هذه القضايا تتقاطع في فلسطين أكثر القضايا في عصرنا عنوانا للظلم، والإجرام الصهيوني، والانحيازالأعمي لأمريكا بوش في ذروة العدوانيّة، ونفاق ـ هكذا يراه الأب الياس ـ أوربا وانتهازيّة قادتها؟
يكتب المناضل الكبير الدكتور جورج حبش في مقدمة الكتاب: أختم بتوجيه تحية تقدير للأب الياس زحلاوي لدوره التنويري كرجل دين مسيحي، يشكّل من خلال انخراطه في القضايا المصيرية لأمتنا العربيّة هو وأمثاله من رجال دين مسيحيين ومسلمين منارةً وسط هذا النفق المظلم.


www.deyaralnagab.com