دروز بلغراد.."أوديسة" في البلقان!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 09.04.2012
يقدم ربيع جابر في روايته المبدعة "دروز بلغراد"، التي حازت على الجائزة الأولى في مسابقة "البوكر" للرواية العربية هذا العام، قصة نفي وعودة لبنانية تحاكي الأوديسة اليونانية العريقة بكل تراجيديتها الحزينة التي تخلع القلوب. حنا يعقوب، 22 سنة، مسيحي بسيط يبيع بيضاً مسلوقاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بيروت تحت الحكم العثماني. يقرر الحاكم العثماني نفي 600 درزي إلى بلغراد عقاباً لهم على جرائمهم ضد المسيحيين. أحد الدروز الكبار في السن يرجو الحاكم أن يعفو عن واحد من أبنائه الأربعة الذين سيشملهم النفي، ويقدم للحاكم كل ما يملك من مال. يقبل الحاكم الرشوة، ولكن يتحتم على الجنود الأتراك ضمان شخص إضافي بديلاً عن الدرزي الذي طاله العفو. صباح النفي، وأثناء تجوال حنا يعقوب الاعتيادي حول الميناء ومناداته ليبيع البيض المسلوق، يفاوضه ضباط أتراك على أن يركب في السفينة عوضاً عن الدرزي المعفي عنه، وهو أمر ضروري لضمان اكتمال العدد، ولأن القنصل الفرنسي، ذا السطوة وفق اتفاقات تدخل القنصليات لحماية الأقليات في أواخر عهد الدولة العثمانية، سيأتي بنفسه ليتأكد من عدد من سيتم نفيهم. ولا يتيح له الضباط الأتراك مجالِا للتردد فيجد حنا يعقوب نفسه في قلب السفينة، مقيداً وواحداً من المنفيين، محشوراً بين قوم يُعاقبون لأنهم قتلوا كثيراً من المسيحيين من طائفته. يرتعد من هول ما هو فيه وهو مقيد فوق ظهر السفينة ووجهة إلى تحت وأحذية الحرس تدوس رأسه كما الآخرين. يُطلق صرخة مدوية ليسمعه القنصل الفرنسي: "أنا حنا يعقوب المسيحي"، فينتبه القنصل ويطلب ترجمة ما قاله حنا، فينقل المترجم التركي الصرخة كالآتي: "أنا الذي قتلت حنا يعقوب المسيحي"!
تبدأ رحلة العذاب الطويل لحنا التي ستستمر 12 عاماً. يترك خلفه هيلانة زوجته الصغيرة 17 سنة، وابنته بربارة ذات الشهور القليلة. صار اسمه سليمان عز الدين غفار، وصار "قانونيّاً" شقيق الإخوة الثلاثة، الذين كرهوه أولاً ثم أحبوه دائماً. ولكنهم لم يقاوموا الإحساس بنسبة كل المصائب التي حلت بهم إلى لعنته التي رافقتهم بسبب براءته. يتنقل الدروز في رحلة عذاب هائلة في طول وعرض البلقان، يطحنهم التعذيب والإهانات والجوع والمرض ويتعفنون في أقبية سجون طينية مظلمة وباردة حيث لا يدركون الليل من النهار. تتناوبهم زنازين بلغراد والهرسك وكوسوفو، وتتجمد عروقهم من البرد والرعب وسقوط كثيرين منهم موتى الأوبئة والكوليرا وهواء بلاد البلغار الأصفر. ومن بلغراد إلى الهرسك إلى كوسوفو والجبل الأسود، يصل حنا يعقوب إلى حافة الجنون: لماذا هو هنا وما هي جريمته. صور هيلانة وبربارة تقضي على ما تبقى لديه من عقل.
ولمواجهة قسوة قدرهم البالغة يُخرج الدروز المنفيون رصيدهم من المروءة والنبل والعمل الجماعي، صفاتهم التي ستكون وحدها حبل نجاة من تبقى منهم. هنا، يرسم ربيع جابر صورة بديعة، وإن كانت مثالية، عن سيئي الحظ هؤلاء، وكيف امتصوا بروحهم الكلية وصبرهم المذهل وإخلاصهم لما يعملونه مشاق النفي والسجن والمرض والموت المُتتابع. في العمل، في الإخلاص حتى في عمل السجن، في غض البصر وفي التمسك ببعضهم بعضاً. في لحظة ما في منتصف النفي والتشريد أصيب حمد، أحدهم، بالعمى وسمح له الأتراك بالعودة إلى جبل لبنان مع نعمان الذي قطعت يده بين العمل الشاق والمرض وصار بيد واحدة، ولكن يرفض الاثنان العودة من دون الآخرين.
يتقلص عددهم بشكل متسارع ويؤولون في نهاية مدة نفيهم إلى عدة عشرات، منهم حنا نفسه، الذي يفلت من حواف الموت. ذات مرة استخدمهم الأتراك لبناء جسر على نهر في بلاد البلغار، وأثناء ذلك هاجمهم متمردون بلغار ثائرون على الحكم التركي. يومها شاهد حنا الموت المجاني لرفاقه، وشاهد الحظ القدر عندما أبقى نعمان الأكتع. وقد نجا حنا من الرصاص بأعجوبة لأنه كان داخل السور المكون من طبقتين، وهرب أياماً وليالي ثم ألقي القبض عليه مرة أخرى وقيد إلى سجن بريشتينا في ألبانيا.
وعلى خلاف رواية "أميركا" التي وصلت إلى القائمة القصيرة في مسابقة "البوكر" العربية للرواية قبل سنتين تتصف "دروز بلغراد" بكونها أحادية الحدث، مسارها واحد ومتوقع -المنفى والتوق للعودة: حنا معروفة قصته والدروز المنفيون يعانون السجن والموت والنفي والعذاب وكل أملهم هو العودة إلى الجبل، وحنا إلى زوجته هيلانة وابنته. أبطال الرواية نتوقع كيف يفكرون، الحنين، الشوق لعودتهم إلى أهلهم وجبلهم وبماذا يحلمون. أما رواية "أميركا" فمختلفة: مسارات أبطالها الرئيسية تتغير، تتبدل، تنحو يساراً ويميناً، وتدور بدوائر كاملة. فيها العالم الروائي كله يدور حلو بعضه بعضاً من دون وجود مسار واضح الملامح لأبطال فيه. وحتى البطلة الرئيسية تفاجئنا بعد كل ذلك الحنين للضيعة بأنها تقرر البقاء في أميركا ولا تعود.
في "دروز بلغراد" ينقل العالم الروائي من أعلاه إلى أسفله، حطام الإمبراطوريات، حروب، عصيان وثورات، كوليرا وقناصل أجانب يتحكمون في بقايا الإمبراطورية العثمانية، مؤامرات، ولكن شخوص الرواية محسوم مسارهم، وحلمهم معروف. وهنا في الواقع يكمن التحدي الكبير الذي يجترحه ربيع جابر: إذ برغم ذلك المسار الأحادي والمتوقع فإنه يخوض المغامرة بجسارة كبيرة، وينجح فيها. يطوف بنا مع أوديسة حنا يعقوب في أرجاء البلقان في تلك اللحظة الزمنية بالغة الانعطافة، النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث الإمبراطورية العثمانية ينهشها العفن، وجيشها الجائع مشتت في أقاصي أراضيها المترامية، فيما جيوش أعدائها تتربص بها، من الجيش النمساوي الذي يتهددها في وسط أوروبا، إلى ثورات الصرب وعصيانهم، وصولا إلى تحالفات الإنجليز ومؤامراتهم مع أو ضد العثمانيين.
يعود حنا يعقوب من الهرسك إلى بلاده بعد 12 سنة مع قافلة للحجاج، متجهة إلى مكة، يصلي صلاة المسلمين أسابيع مع القافلة، واصلاً حلب ثم دمشق. ومن دمشق يعود إلى بيروت، ويرى هيلانة تجلس على عتبة البيت صبية وجميلة كما تركها. يشعر بالرعب إذ يظن أنه يحلم ولم يعد إذ كيف لا تكبر هيلانة؟ ينهار بالبكاء عندما يدرك أن الصبية اليافعة التي يراها على عتبة الباب هي بربارة ابنته، في ما هيلانة في الداخل تربت على شعر وردة وتدندن بالأمل وبعودة حنا.
www.deyaralnagab.com
|