logo
وداعا يا أبا إبراهيم!!

بقلم : رشاد أبوشاور  ... 01.08.2012

اعتاد الفلسطينيون أن يتنادوا بأسماء أبنائهم الذكور، ربما من قبيل المباهاة، لا بعد الإنجاب حسب، ولكن قبل الزواج حتى، تفاؤلاً بأن فتى اليوم سيبني أسرة في آتيات الأيّام، وهذا هو حال صديقنا ناجي علوش (أبو إبراهيم) الذي رحل فجر يوم الأحد 29 تموز، قبل 3 أيام.
ناجي علوش مفكر قومي كبير، وقائد ميداني في حركة فتح كان نائب قائد قوات المليشيا بعد انطلاقة المقاومة الفلسطينية ـ وشاعر، وناقد أدبي، وباحث، ومنظّر سياسي. مرّت حياة (أبو إبراهيم) بأطوار سياسية، ونقلات يصعب اختصارها واختزالها بكلمات، فحياة الرجل تداخلت بالحركة النضالية الفلسطينية، والثورة الفلسطينية المعاصرة، وبالعواصف التي ألمّت بحركة فتح تحديدا، وبتأسيس الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين، وما شهده من صراعات انعكست على مسيرته، بسبب الدور السياسي المعارض للقيادة المتنفذة منذ بدأ التبشير بالسلطة على أي شبر ينسحب منه الاحتلال الصهيوني، في أعقاب حرب تشرين عام 1973، وبروز الخطاب السياسي الفلسطيني الذي بدا مسيرة التنازل والمساومة، وهو الخطاب الذي التقت فيه قوى يسارية مع يمين الثورة الفلسطينية صاحب الرؤية والمنطلقات الإقليمية.
غاب اسم ناجي علوش، وقلّ حضوره، بسبب المرض الذي دهمه إثر جلطة تسببت بشلل نصفي أقعده منذ حوالي 14 عاما. ولأن الرجل الحيوي الحضور يأبي أن يغيب، فقد بذل جهده للتغلب على حالته، وأرسل كلماته عبر الصحف، وفي المقابلات معه، وبمقالات قصيرة، بسبب وضعه الصحي، وعجزه عن الاسترسال في كتابة مقالات طويلة.
أراد (أبو إبراهيم) أن يقول كلمته في كل مفصل وطني، وقومي، ولذا تحامل على نفسه، وتوجه إلى المخيمات، والتجمعات، وحاضر، وجادل، ونافح عن قناعاته التي لم يحد عنها، وفي مقدمتها: فلسطين قضية قومية، و..الصراع مع الكيان الصهيوني هو صراع وجود للأمة كلها..لا يحسم بغير الكفاح المسلّح.
مبكرا اشتبك أبوإبراهيم مع دعاة (التسوية)، وهو ما أدى إلى صراع حاد مع بعض قيادات فتح المتنفذة، والتي روجت لحل (الدولة الفلسطينية)، وكان معه في تلك الفترة المفكر منير شفيق، وقد لعبا دورا بارزا في تأطير حركة معارضة لهذا الخطاب الذي بشّرت به الجبهة الديمقراطية، و(باركته) قيادة حركة فتح.
آنذاك كان ناجي علوش أمينا عاما لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، ومن عاش في تلك الفترة في (الفاكهاني)، أو تابع عن بعد صراعات (الساحة) الفلسطينية، يتذكر أن الاتحاد مثل قوة معارضة ثقافية فكرية لتيار التسوية، ورهاناته، وتنازلاته المبكرة عن الثوابت الوطنية والقومية.
في وقت مبكر انتقد ناجي علوش (عفوية) الثورة الفلسطينية، لا سيما فتح التي كان في صفوفها كادرا متقدما، فكتب (نحو ثورة فلسطينية جديدة) عام 72، وما كان لقيادة فتح أن تستقبل أطروحاته هذه برحابة صدر، كونها مستفيدة من حالة (العفوية) التي أدت للولاءات للفرد، ولهيمنته المبكرة التي دفعت الثورة ثمنها، والتي آلت بقضيتنا إلى مأزقها الراهن، بعد خساراتها الفداحة، تحديدا منذ (أوسلو)، و..مرحلة السلطة، وما جاء إثرها من انشقاق، وضياع للطريق، والوحدة الوطنية، والأرض، والقدس.
لوحق ناجي علوش، وباتت حياته في خطر، واختفي عن الأنظار فترة في بيروت، ولكنه اضطر لمغادرة لبنان مع تصاعد الخطر على حياته.
في مرحلة بيروت عمل ناجي علوش ومنير شفيق على تنظيم وتأطير طلبة فتح في الجامعات، ونجحا إلى حد بعيد، كون الطلبة يتمتعون باستعدادات عقلية ونفســية وثقافية تؤهلهم لتلقف الخطاب الداعي (للتنظيم)، ووضع برنامج ثوري لفتـــــح والثورة الفلسطينية، ورفض الولاءات الشخصية لقيادة فتح، ورفض خطاب التسوية التنازلي. (كتاب انثيال الذكرة لفتـــحي البس يتوقف عند تلك الفــــترة بشكل جيد، كون الكاتب كان أحد أبرز الكوادر الطلابية في فتح).
افترقت سبل أبي إبراهيم ومنير شفيق، وعصفت الحرب الأهلية اللبنانية بالجميع، وفرضت تحالفات جديدة، ثمّ جاء التدخل السوري عام 76 فاختلطت الأمور، وحدثت انشقاقات..وتلك حقبة لم يتم التوقف عندها، ودراستها، وإن مرّت عليها بعض الكتابات بدون تعمّق، ربما لتدافع الأحداث في لبنان، وما جرّه (كامب ديفد) السادات على الأمة، وعلى القضية الفلسطينية، وعلى العلاقات العربية الرسمية. (طرد مصر من جامعة الدول العربية، ونقل مقر الجامعة إلى تونس، وتشكيل جبهة الصمود والتصدي).
هناك فصل في حياة صديقنا ناجي علوش يبدو غريبا، ولا ينسجم مع تكوينه الفكري، والأخلاقي، وهو (قبوله) أن يكون أمينا عاما لفتح المجلس الثوري (أبو نضال البنا)، ربما رهانا منه على إمكانية عقلنة أبي نضال ، والتأثير عليه بحيث يكف عن عمليات اغتيال الفلسطينيين الذين يختلف معهم، والموالين لقيادة فتح. رهان أبي إبراهيم فشل، فانهارت العلاقة غير المنطقية، و..بات ناجي علوش مطاردا من أبي نضال وجماعته، وكأنما لا تكفيه المطاردات السابقة!
ناجي علوش كما عرفته، وقد عملنا معا في الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين: رجل أخلاقي، عف اللسان، نزيه ومستقيم في حياته الشخصية، وهو مع إنه مسيحي لم يكن (يشرب الخمر)، ولا كان يدخن، ولا يغشى أمكنة غير لائقة، ولا يبدد وقته في جلسات (الكلام الفارغ) و(النميمة) التي كان يمارسها بعض أبرز المثقفين، والكوادر الطامحة للوجاهة، تغطية على قلة الكفاءة.
شعريا كان مفتونا بالمتنبي، وكتب عنه دراسة كان يعتز بها، ومن منطلق إعجابه بالمتنبي كتب شعرا موزونا مقفى في بداية حياته، ثمّ انتقل لكتابة القصيدة الحديثة، قصيدة التفعيلة، ربما بتأثير علاقته بالشاعر بدر شاكر السياب الذي جمعته به صداقة أثناء وجوده في الكويت.
تأثر ناجي علوش بفكر ماوتسي تونغ، ولا سيما كتاباته حول حرب العصابات، والبناء التنظيمي، وبعلاقته بمنير شفيق الماركسي الأصول، وصاحب الدراسات الفكرية المتميزة التي ألهمت كثيرين في الثورة الفلسطينية، ووصل تأثيرها إلى بلاد عربية بعيدة لرصانتها وجدتها.
ما كان لي أن أتحدث عن دراساته الهامة عن ثورة فلسطين الكبرى، وغيرها، وإنني أنصح من يريد التوسع في معرفة حياة هذا الرجل الفذ والكبير، أن يبحث عن كتبه في مكتبات لبنان وسورية، ولا سيما لدى دار الطليعة.
لعلها مناسبة أن أتمنى لو يعاد طبع بعض كتبه البارزة، خدمة للشباب العربي، وبالأخص الفلسطيني، لأنها ستعينه في معركته الصعبة، وتنير له بعض الطريق، وتشجعه على التفكير، والجدل، وطرح الأسئلة حول أسباب إخفاقات الثورة الفلسطينية المعاصرة، وسبل إنقاذها وتجديدها.
في الفترة الأخيرة، وهو يتابع الحراكات الشعبية العربية، أعلن الرجل، وما هذا بغريب عليه، رفضه بالمطلق لأي استعانة بالغرب الاستعماري، والناتو تحديدا، وأي طرف خارجي، بحجة التخلّص من (الدكتاتورية)، وحذر من أن هذا الخيار يعني عودة الاستعمار لتقسيم الوطن العربي، والهيمنة على ثرواته، بعد الهيمنة على ثوراته.
وداعا يا أبا إبراهيم، أيها الصديق النبيل، المبدئي، الشريف، المؤمن بعروبة فلسطين، وبأن الأمة لن تنهض بدون الوحدة العربية، وبأن المثقف كلمة صادقة جريئة في وجه الظلام والانحراف والخيانة، مهما كان الثمن فادحا.


www.deyaralnagab.com