السجن واحد وإن اختلفت الجدران...!!
بقلم : سهيل كيوان ... 21.03.2013
لا شيء أكثر منطقًا من تحول الأسرى إلى عصب قضية فلسطين، ولا شيء أكثر طبيعية من أن يكون الأسرى هم قباطنة مركب الحرية الذي تتناوشه أمواج محيطات القهر والظلم السوداء، هم أبطال السجن الكبير، انتقلوا إلى السجن الصغير فالأصغر فالزنازين، لا يوجد تراب أو فضاء فلسطيني متحرر من القضبان والأسلاك، كل الوطن سجون وزنازين وإن اختلفت الجدران ومساحاتها ولون طلائها، كلنا أسرى بصورة أو أخرى، ما دام أن كل ترابها أسيرًا، ذلك التراب الذي يحضن الفدائي حيًا، وميتا حيًا، التراب المقدس بدماء ولحم وعرق أجيالٍ من الفلسطينيين والعرب.
أعاد الأسرى لكلمة 'فدائي' روحها الحقيقية، تلك الكلمة التي لاح أنها باتت وراء زجاج الفترينات بسبب ما لحق بها من جور السياسة وأمنيات الحصول على الدبس من قفا النمس. فدائيون مضربون عن الطعام، أولئك الذين يقدمون أرواحهم على دفعة واحدة في السجن الكبير، يقدّمونها بالساعات والدقائق داخل السجن الأصغر. كومة اللحم هذه هي السلاح الأخير لهذا الفدائي، ليس له سوى لحمه العاري يواجه به عدو حرّيته، لحمه هو سلاحه، أمعاؤه هي خندقه الأخير، والبشر من ضعف تتحكم بهم أجسادهم، ولكن الفدائي ليس بشرًا عاديًا، روحه تطوّع جسده، هو صاحب القرار على كل خلية في جسده، فدائيته تجعل السجان صغيرًا وحقيرًا، وتحول السلاسل إلى أساور مجد وفخار، روحه التي عافت الحواجز والجدران والأسلاك تمرّدت، هذا لحمي،هذي عظامي، هذا دمي، اشربوه، انهبوه، فهو ليس أكثر من حفنة تراب من وطن نُهب حفنة حفنة، عشبة عشبة، شجرة شجرة،صخرة صخرة، وقبرًا بعد قبر، هذا جسدي انهبوه مثلما نهبتم الهواء والماء والتراب، لم يبق لي سوى جسدي، لم يبق سوى هذا الظل، وهو لي، ها هو يتمرد عليكم رغم أغلاله.
كلنا سجناء، من الرئيس إلى الوزير إلى الأستاذ إلى الخفير، كلنا يُفتّشُ ويهان على المعابر، بل أن بعضنا يُضرب إذا ما نطق حرفًا بلسان العرب، هم يريدوننا غرباء، بل أن نؤمن بأننا غرباء، هذا ينتظر راتبه من مجرمي الإحتلال، وذاك يستل لقمة أبنائه بطلوع الروح من بين أشداق تماسيح النهب والسلب.
ألقى الأسير لحمه ودمه في ساحة الصراع، كي يواصل حلمه، هو الحُرّ الوحيد في هذا البحر اللجي من العبيد، على الحواجز والمعابر وانتظار العفو عن أنصاف الرواتب وأكياس الطحين وأسطوانات الغاز والحليب والماء، كل الدنيا محتلة ومُهانة، إلا ذاك المطل على الكون من زنزانته، من من نواصتي وجهه النحيل، والمحتل لا يفكر ولا يخطط إلا كيف يجهز على ما تبقى من أنفاس الأحرار، كيف يتخلص منها بدون ضجيج، وهو لم ولن يشبع ولن يرتوي حتى يرى الفلسطيني الأخير مغادرًا عبر النهر أو البحر أو مدفونًا تحت التراب. تتبدّل الفصول والتضاريس والدول والبيئة والمناخ، يذوب القطب، وتثور الأمة على مستعبديها الملاعين، والصهيونية كما هي، مثلما بدأت منذ قرن، بل تزداد جشعًا وتغوّلا، ديدُنها هو نفسه، أفعى تسعى ساعة بعد ساعة، ولحظة بعد لحظة لتفريغ الأرض من بشر ولدوا من رحمها، تقتل، تأسر، تشرّد الأجيال، وما زال الظلام مخيمًا منذ ثلاثاء الرماد إلى الثلاثاء الحمراء، إلى ثلاثاء الرصاص، إلى ثلاثاء الحديد والسلاسل، مرورًا بكل ثلاثاء منذ مائة عام، السجون تتسع وتتناسل، وجدران الزنازين لا ترتوي من الدموع والعرق والدماء، والسّجان يستفزه خيطُ ضوء،يجعله وحشًا كاسرًا، والقبور تفتح أشداقها لتبتلع،وتسأل، هل من مزيد!
ملايين الأيام والليالي أهدرت في سجون الإحتلال، ملايين الأمنيات ورسائل الشوق والحب ارتطمت بالجدران، ملايين أبيات الشعر والقصص والصلوات والأدعية نسجت في الظلام، مئات آلاف الأمهات سهرن مع دموعهن، مئات آلاف الرجال والأطفال والنساء انتظروا على أبواب المعتقلات، الآباء انتظروا الأبناء، والأبناء انتظروا الآباء، مئات آلاف الصبايا عَطّرن وسائدهن بالدموع وانتظرن الحبيب الذي سرقه الليل.
أمام سجن (مجدو) الذي مر بين جدرانه وتحت خيامه عشرات آلاف الفلسطينيين، حيث استشهد البطل عرفات جرادات، وقف آباء وأمهات وأشقاء وأخوات وزوجات وأبناء وأهالي سجناء سابقين ولاحقين، عندما تقترب منهم أكثر، تعرف أن للأسرى وذويهم إيقاع حياة مختلف عن ذلك الذي يعيشه البعيدون عن التجربة، نضالهم يختلف، حياتهم تختلف، يومياتهم واهتماماتهم تختلف، إنهم يشعرون بقيمة الثواني والدقائق في حياة الإنسان، يدركون قيمة الهواء النظيف، يعرفون كيف يتذوقون نور الشمس، وكيف يسكرون بحبات المطر، ويطربون ويرقصون لزقزقة العصافير ونوار الخوخ.
آلهة الظلام جاهزة للانقضاض بالآليات والتقنيات القديمة والحديثة، سيارات مصفحة وخيل وأجهزة اتصال، هراوات وبنادق ودروع، يجب أن تتفرق التظاهرة وإلا فضت بالقوة، تشعر بالخجل من أولئك المضربين عن الطعام الذين جعلوا من لحم أكبادهم سلاحًا وجسرًا، تخجل من أجسادهم الذاوية ونظراتهم النارية وعزيمتهم الفولاذية.
لا حرية للوطن بدون مقاومة، ولا مقاومة بدون شهداء وأسرى، وطريق الحرية يمر عبر الزنازين، لا بد لكل فلسطيني حيثما وجد أن ينصهر في قضية كل أسير وشهيد ومُنتظر أو مهان على حاجز، وكل جائع ومشرد ولاجئ وفاقد لأرضه أو بيته ليتحد الكل في الواحد والواحد في الكل حينئذ تحيا بنا ونحيا بها..فلسطين...فلسطيننا...
www.deyaralnagab.com
|