كان سعيدا بالسلاح!!
بقلم : سهيل كيوان ... 18.10.2012
في كل لقاء بيننا، سواء في مناسبة أو صدفة في الطريق كان يوقفني ليسمعني بعض أبيات من الشعر بأداء شاعر مرهف، وأحيانا يشـــدني بقبـــضته من تلابيــــبي كأنــــه يخشى أن أمضي قبل أن أسمعه، حفظ الكثير من الشعر، معظمه في الغزل والمجون والأسئلة الوجودية، فقد كان الشك سؤاله الأثير، حفظ لأبي العلاء وللخيام وأبي نواس والمتنبي وغــــيرهم الكثير، حتى صار يصبو لنظم الشعر، أحيانا كان يحكي نهفة أو ملحة أدبية أعجبته، ينسخها ثم يحفظهـــا في جيبــــه ليحكيـــها شفهيا فإذا تعثر أخرجها من جيبه وقرأهــــا، كان يحب الحياة بشــراهة، وكان لديه عطش كبير للمعرفة ولتعريف الناس بأنه يــعرف، اشتغل كعامل صيانة في مدرسة ابتدائية، يعتني بحديقتها ومرافقها، وكأنه أراد دائما أن يبرهن بأنه لا يقل معرفة وثقافة عن طاقم المدرسين رغم أنه لم يجلس على مقاعد الدراسة سوى في سني طفولته الأولى، ولكنه بالفعل كان يبز معظمهم في حفظ المأثورات.
قبل أشهر رآني من بعيد فأسرع باتجاهي مبتسما وتوقعت كالعادة بأنه سيقرأ بيتا أعجبه وربما نكتة، ولكن كانت ضرسه الذهبية تلمع هذه المرّة وهو يخبرني بأمر مختلف تماما إذ قال: 'بارك لي فقد حصلت على رخصة سلاح..'.
-سلاح؟؟
-أنت تعرف أنه ليس هينا أبدا الحصول على سلاح مرخص، تحتاج إلى سيرة نقية تماما من أي مخالفة جنائية، وطبعا أن تكون بعيدا جدا عن أي شبهة أمنية، أو أن تكون من جماعة السلطة..أنت تفهمني وتعرف أنني لست من جماعتهم بل وأبعد ما يكون، عندما ذهبت طالبا ترخيصا للسلاح دُهشوا وسألوني ألف سؤال عن غايتي من السلاح...ثم حققوا وبحثوا في ملفاتي القديمة، نبشوا تاريخي لأكثر من خمسين سنة ولم يعثروا على أي حبة غبار في سجلي، بحثوا ومحّصوا حتى كدت أتنازل عن طلبي هذا ولكنهم في النهاية وافقوا وحصلت على السلاح....
-وما حاجتك للسلاح!
-'أنت تعرف أنني خرجت من العمل إلى التقاعد المبكر ولكن لم أطق نفسي في البيت، بحثت عن عمل جديد ووجدته في ورشة للحراسة، بدأت العمل بدون سلاح ولكن شركة التأمين اشترطت أن أكون مسلحا وإلا فلن أستطيع مواصلة العمل، ولهذا تقدمت بطلب حيازة سلاح مرخص بدعم من صاحب الورشة الذي يعرف إخلاصي في العمل ويحترمني منذ سني عملي السابقة.' ثم أضاف 'لقد كان هناك من نبش ورائي وحرّض لمنعي من الحصول على السلاح لأن ابني مشاغب وخطير، وأنا لا أنكر أن ابني مشاغب، من لا يعرفه! إنه ضيف دائم في مخافر الشرطة، لا يمر شهر بلا مشكلة، ولكن ما ذنبي أنا إذا كان ابني مشاغبا، إنه ليس مشاغبا فقط، إنه ناكرجاحد عاق لا يوجد أسوأ منه، ليتني لم أنجبه، لم يعد بمقدوري أن أراه، في إحدى المرات جاءني جاري وأخبرني وهو يرتعد يكاد يبكي أن ابني دخل بيته خلسة وسرق مبلغا من المال من ثوب معلق في غرفة نومه، كان هذا راتبه الذي تلقاه في ذلك اليوم، وقال لي 'أعرف أن ابنك محكوم بالسجن مع وقف التنفيذ لمدة ستة أشهر، ولهذا لا أريد التقدم ضده بشكوى، لأنه حتما سوف يسجن، أريد فقط أن يعيد لي مالي'. فقلت له..سأعيد لك مالك شرط أن تتقدم بشكوى ضد ابني للشرطة لأنني أريده أن يسجن لعله يتأدب'.حاول الرجل أن يثنيني عن طلبي ولكنني أصريت، وبالفعل ذهب الرجل ثم عاد وبحوزته أوراق بالشكوى التي قدمها للشرطة فدفعتُ له ماله عن طيب خاطر وشكرته، ولكن تبين فيما بعد أن جاري الطيب أحضر أوراقا مزيفة ولم يرد أن يسجن ابني بسببه، ولكن هذا الملعون تورط بعد أسابيع في قضية أخرى وسجن، أملت من السجن أن يصلح أمره ولكنه ازداد سوءا، لا أدري من أين اكتسب كل هذا الشر، يعتدي على أملاك الناس وأعراضهم، لم يسلم منه جار ولا صديق أو قريب ولا بعيد، دفعت الكثير من المال لأصلح ما يخرّبه وتدخلت كثيرا بينه وبين الناس ولكنه لم يتوقف عن شروره بل ازداد قذارة رغم أنه تزوج وصار له أبناء، إنه ليس طفلا، أسهمت في زواجه وشيّدت له شقة فوق منزلي وأنا الذي أطعم أبناءه وزوجته، ورغم هذا ما زال يخذلني ويسوّد وجهي مع الناس، لولاه لكنت أسعد الناس، إنه مشكلتي في الحياة، كثيرون يشتهون أن يكون لهم ابن واحد، أنا أتمنى لو لم أنجبه، كان يكفيني بناتي الثلاث..!
كان هذا اللقاء وما دار فيه من حديث قبل أشهر.
قبل أيام تناقل الناس خبرا يفيد بأنه قتل..هناك من أطلق النار عليه فأرداه قتيلا...لأول وهلة تبادر لذهن كل من سمع الخبر أنه قتل أثناء عمله في الحراسة من قبل لصوص، ولكن بسرعة تبين أنه قتل في ساحة بيته....
عندما وصلتُ بيته كان العشرات قد تجمهـــــروا وهم في حـــــالة وجوم وذهــــول بعد فشل طاقـــــم الإسعاف في إنقـــــاذه، وقعت بينه وبين ابنه مشادة كلامية، هــــذه المرة كان ابــــنه العاق قد تقدم بشكوى ضد جاره الطيب بعد نقاش حاد دار بينــــهما قــــبل يومين تطور إلى تبادل للصفعات واللكمات وقد تضـــــرر وجــه ابنه اثناء العراك، فتقدم بشكوى للشرطة التي حضرت واعتقلت الجار الذي تواجهه عقوبة السجن لعدة أشهر إلا إذا تنازل الابن عن حقه، ولكنه رفض التنازل واشترط تعويضا ماليا كبيرا للمصالحة..
حاول الرجل اقناع ابنه بالتنــــــازل عن الشكوى، ولكــــن هذا كان فرحا كأنما ربح جائزة ويطلب تعويضا ماليا من جاره أو سجنه.
راح الرجل يعدد لابنه عشرات المرات التي سامحه فيها الناس وتنازلوا عن حقوقهم، ثم ذكره بتنازل هذا الجار بالذات عن شكواه يوم سرق له ماله وكان بإمكانه أن يسجنه..ولكن ابنه أصر على الشكوى التي ستؤدي لحبس الجار.
في خضم النقاش والغضب واليأس أسرع الوالد إلى سيارته وأخرج مسدسه المرخص..تقدم من ابنه حتى وقف أمامه وقال له اسمعني للمرة الأخيرة..لم أعد أحتمل..
فرد ابنه: تفضل اقتلني وارحني وارح نفسك مني..
فقال لن أقتلك ولكن سأقتل نفسي إذا لم تسقط الشكوى ضد هذا الجار، الجميع يعرف أنه مسالم وأنت أنت المشكلة..
فرد ابنه وهو يمج من سيجارته ببرود...هذا شأنك الشخصي ولن أتدخل فيه...تقتل نفسك أو لا تقتل نفسك هذا شأنك..
حينئذ صوب الوالد المسدس إلى صدره وأطلق رصاصة يتيمة في صدره فجّرت قلبه......
انتحيت جانبًا ومتأملا..أتذكر كم بذل من الجهد للحصول على السلاح وكم كان سعيدا وهو يزف خبر حصوله عليه، دون أن يخطر في باله بأنه هو نفسه أداة نهايته...
www.deyaralnagab.com
|