logo
حتما سنعود إلى زكرين!!

بقلم : رشاد أبوشاور  ... 24.10.2012

وهي بلهجة أهلها: تلفظ بتاء وشين مدغمتين( ذتشرين).
وهي كما ترد في موسوعة الجغرافي والمؤرخ مصطفى مراد الدباغ، في الجزء المعنون( في ديار الخليل): زكرين..بكسر أوله، وسكون ثانيه، وياء ونون. ويضيف: لعلّ (زكرين) من جذر( ذكر) السامي المشترك بمعنى العيد، و( الذكرى)، أو تحريف لاسم ( زكري) بمعنى مذكور. تقع في الشمال الغربي من الخليل، وترتفع 200 مترعن سطح البحر.
هذا بعض القول عن قريتنا، وأهلنا عودونا أن يقولوا: بلدنا.
من أي بلد أنت؟ من ذتشرين.
ذتشرين هي مسقط الرأس، وهي الانتماء، وهي العهد الذي لا بدّ أن ينجز مهما طال الزمن.
هي العهد المتوارث جيلاً إثر جيل، ولذا فستبقى حيّة بتفاصيلها في نفوسنا نحن الذين ولدنا على ثراها، وستنتقل إلى نفوس وعقول وضمائر الأجيال التي تولد في المنافي.
زكرين تتجلّى في النفس بمائها، بكرومها، بموارسها، بتينها وزيتونها، بسمائها الفسيحة، بمواويل رعاتها، بأغاني أمهاتنا وأخواتنا في أعراسها، بالزغاريد تشحذ نفوس وهمم المدافعين عنها، وتودع شهدائها.
هي خصلة العنب يضعها الجد بين أصابعك، ملقنا ذائقتك حلاوة علاقته بالأرض والماء والندى والصبر، غارسا في جسدك سر الارتباط بالأرض، وجوهر علاقته بالأرض حارثا وزارعا، وجاني حصاد.
زكرين، أو ذتشرين، هي النداء الذي لا يغيب للمشردين حتى يعودوا.
هي من حيث الموقع تقع شمال غرب مدينة الخليل العريقة، وهي مكانة تقع في دورة الدم، ونبض القلب، وفي الروح، وهي هاجس العقل، وستبقى النداء الذي لا يُنسى.
في تراثنا كان يربط للمسافر خيط حول إصبعه كي لا ينسى، فيؤوب مهما امتدت رحلة غيابه.
الذتشريني في قلبه خيط يشده إلى ذتشرين، وهو خيط من نور يشحذ همته ويقينه وإيمانه بالعودة إلى أرض آبائه وأسلافه.
ذتشرين هي فلسطين بقراها، ومدنها، وحضارتها، وموقعها في قلب الوطن العربي الكبير.
هي القدس التي تجشم أسلافنا عناء السفر إليها مشيا على الأقدام ليصلوا في رحاب أقصاها، وليتبركوا بقبة صخرتها، وليتنفسوا عراقة تاريخها ومعاركها المجيدة.
هي المحبة للخليل التي دفعتهم لزرع عشرات الدونمات من أرضهم، حول مقام الشيخ ( أبوعمران)، ثمّ حملوا ما تجود به، لتطهى وتقدم إلى ضيوف الخليل النبي.
ذتشرين هي يافا التي حملوا برتقالها لأسرهم، وتأملوا بحرها، فتشوقت نظراتهم لمعرفة البعيد وراء الآفاق.
ذتشرين بالنسبة لمن ولدوا بين راحتيها، ولمن ينتسبون لها بالدم، هي معنى الحياة، وهي الحق في العيش بكرامة، في وطنهم فلسطين.
ذتشرين التي اقتلعنا منها لم تقتلع منا، ولن...
حين رحل بنا أهلنا منها اضطرارا في يومي 22 و 23 تشرين أول عام 1948، جعلونا ندير رؤوسنا إليها، ونفتح عيوننا على وسعها لتلتقط تفاصيل مشهدها، فلا تغيب أبدا من الذاكرة.
وذتشرين دللها جيرانها في القرى الحبيبة المجاورة ب: ذتشرين البردان..امتداحا لماء آبارها، ومحبة لناسها الطيبين.
ذتشرين هي بيوتها المبنية من ترابها وحجارتها ومائها وتبنها وقصلها وخشب أشجارها.
إننا نراها بعين اليقين، فهي على مرمى النظر، من حيث تواجدنا، تنبض في القلب، حتى وإن هدمها المحتلون الغزاة، ومهما حاولوا تغيير وجهها ومعالمها، فالصبار راسخ يسوّر حواكيرنا، والزيتون الذي زرعه أهلنا ما زال يثمر منتظرا بزيته وخضرته.
ها هم ناسها، أهل ذتشرين، الذين لو عصرتهم لنزفوا ترابا يمتزج بأبدانهم، بلحمهم وعظمهم.
ها هو مسجدها الذي ابتنوه من حجارة ناصعة كنفوسهم، وحرمهم الصهاينة الغزاة من الصلاة فيه..ما زال ينتظر عودة المصلين.
ها هي الطرق التي تأخذهم إلى الفالوجي لاقتناء حاجياتهم من سوق الخميس، وإلى بيت جبرين ليستأنفوا سفرهم إلى الخليل، وها هي المسارب إلى الدوايمة، وعجور، والدير، وتل الصافي، وبرقوسيا، ومغلس، ورعنا، وكدنا، وصميل...
وها نحن الذتشارنة الذين طردنا منها بالنار والحديد، ولم يزد عددنا آنذاك عن ألف..ها قد قرب عددنا من العشرين ألفا، وهذا ما يخيّب مخططات الصهاينة باندثارنا.
وها هم أبناؤها وبناتها: دكاترة، ومهندسون، ومحامون، وأساتذة جامعيون، ومدرسون، ومعلمات، وممرضات، ورجال أعمال!
لم يمت أهالي ذتشرين في الغربة، في الخيام، في البرد والجوع والوحل، في مخيمات التشرد: الدهيشه، والنويعمة، وعين السلطان، والفوار، والعروب...
لم يمت الذكارنة من قسوة الشتاء، من الحفاء، من ندرة اللباس الذي يعينهم على مواجهة زمهرير الشتاء القاسي، ومن الصيف الحارق، ومن الأوبئة..ومن الحنين للبيت الذتشريني، والحاكورة، والمقثاة، والمارس..وها هم أحياء يحتفون بارتباطهم بذتشرين، ويجددون عهد العودة إليها مهما طال الزمن.
أليست هذه مسيرة شعبنا الفلسطيني كله؟!
هي كذلك، ولذا كل كلمة نقولها عن ذتشرين، هي عن قرانا ومدننا المنكوبة جميعا، التي لن تعود إلاّ بديمومة روح المقاومة.
أهلنا قاوموا ورفضوا التوطين، وإغواء الترحيل إلى كندا، وغير كندا، في وقت مبكر من الخمسينات، وهم يقاومون الوطن البديل، وتبديل الوطن، لأنهم لا يتخلون عن ذتشرين وأخواتها، إن كن من قضاء الخليل، أو أي مدينة من مدننا الخالدة في فلسطين العريقة، قلب الوطن العربي الكبير، التي على ثراها خيضت أعظم معارك الأمة، في مواجهة الرومان، والفرنجة ، والمغول..ومن بعد: الإنكليز وحلفائهم الصهاينة.
دائما قيل: لايضيع حق وراءه مطالب..وهذا صحيح إذا ما قرن المطالب الفعل بمطالبته، وهو ما فعله شعبنا، وسجل تضحياته لا تفوقه تضحيات شعب من الشعوب المظلومة التي ثارت وانتصرت في زمننا.
لا يضيع حق وراءه مطالب، وشعبنا لم يكف عن المطالبه، والمقاومة، وتقديم الشهداء..ومن ذتشرين سقط شهداء أبرار.
ذتشرين لن تعود، ولن نعود إليها، بالمناشدات، ولا بأوهام السلام مع عدو ينهب الأرض يوميا، ويهود القدس، ويقتل أهلنا في الضفة الفلسطينية، وقطاع غزة، ويبطش بأهلنا في الجزء المحتل منذ العام 48، ويعتقل الألوف، وكل هذا رغم اتفاقيات السلام معه: كامب ديفد، ووادي عربه، وأوسلو التي أدت في النهاية إلى انشقاق وصراع وتنافس على الوهم، رغم أن الجميع في الحصار، وفي سجن كبير!
كل بوصلة لا تؤشر إلى فلسطين مضللة، وكل خيار لفرد، لحزب، لنظام حكم، لا يتوجه إلى فلسطين هو باطل، ومضلل، وضال.
نحن الذتشارنة نجدد العهد مع قريتنا، مع كل قرانا، مع كل فلسطين من نهرها لبحرها، ولن نيأس أبدا مهما خُذلنا، ولن نحبط من الغدر والطعنات.
ذتشرين: منها يبدأ وعينا، وينمو، ويكبر، حتى يشمل كل فلسطين، وكل وطننا العربي الكبير الذي لن ينهض ما دامت فلسطين محتلة، وما دام المشروع الصهيوني حاجزا بين مشرق الوطن ومغربه.
احتلت وحدات من اللواء جفعاتي التابع لجيش العدو قريتنا ذتشرين، والقرى المجاورة، في الوقت الضائع من حرب ال48، بمئات الجنود المسلحين بأحدث الأسلحة، وأعلى الخبرات التي اكتسبوها من الحرب العالمية الثانية في صفوف قوات الحلفاء، تحديدا البريطانية والأمريكية، بينما قاتلت قريتنا، وكل قرانا ببنادق قديمة تنقصها الذخائر، وصمدت رغم ذلك حتى أواخر أيام الحرب!
من جديد تدب الحيوية في أوساط شعبنا، وتتجلى برفع راية الهدف المقدس: حق العودة..وهذا ما يبشّر بإعادة قضيتنا الفلسطينية إلى مكانها ومكانتها، بعد كل ما لحق بها من تغييب، بسبب الصراع على السلطة، ووهم الدولة.
لن نقبل بالتوطين، ولا بكل ذهب الأرض تعويضا عن حبة تراب من تراب ذتشرين، عن قرى ومدن فلسطين، وسنورث هذا الإيمان لأبنائنا وبناتنا، ولأحفادنا...


www.deyaralnagab.com