هكذا تتنفس غزة عبر الأنفاق !!
بقلم : صالح النعامي ... 25.8.08
فقط تعليقات ركاب سيارة الأجرة الساخرة جعلته يدرك أنه كان يرتدى قميصه بالمقلوب، فقام بخلعه ولبسه من جديد. فصلاح النعيمي ( 43 عاماً )، الذي يقطن مدينة " دير البلح "، وسط قطاع غزة أصيب بالتوتر والإنفعال الشديد عندما اتصل به أحد أصحاب الصيدليات في مدينة " رفح " أقصى جنوب القطاع وأبلغه أن الدواء المخصص لعلاج مرض الأعصاب الذي تعاني منه بنته أصبح متوفراً لديه، فارتدى الرجل ملابسه على عجل دون أن يعي أنه لبس قميصه بالمقلوب. ويقول النعيمي ل " ويكلي " أن شعوراً بالسعادة لا يوصف سيطر عليه عندما عاد الى المنزل ومعه الدواء الذي حاول عبثاً العثور عليه في جميع أرجاء قطاع غزة. النعيمي يرجع الفضل في عثوره على هذا الدواء الى أنفاق التهريب التي تربط بين قطاع غزة ورفح المصرية والتي أصبح يتم عبرها تهريب المواد الحيوية التي يحتاجها الناس هنا في ظل الحصار الخانق المفروض على القطاع والذي معه أصبح من المستحيل العثور على معظم المواد الأساسية، مع العلم أن سريان اتفاق التهدئة لم يغير كثيراً من الواقع البائس الذي يحياه الفلسطينيون هنا. غسان حسين ( 44 عاماً )، المدرس الذي يقطن في مخيم " المغازي " للاجئين وسط قطاع غزة أبلغ " ويكلي " أن الأنفاق وضعت نهاية لمعاناته الشديدة في هذا الصيف حيث أنه لم يكن ينام إلا قبيل ساعات الفجر الأولى بفعل الحر الشديد، حيث يستيقظ من النوم وقد تصبب عرقاً لأنه لا يملك هواية،مشيراً الى أنه لم يعثر على أي هواية في قطاع غزة بسبب الحصار، لكنها عثر عليها في إحدى المحال التجارية في " رفح " بعد تهريبها عبر أحد الانفاق. الإنطباع الذي تحاول إسرائيل تسويقه بأن الإنفاق مخصصة لتهريب السلاح والوسائل القتالية مضلل وغير حقيقي، في حين يؤكد صاحب أحد الأنفاق ( والذي يرفض الكشف عن اسمه لدواعي امنية )، ل " ويكلي " أن 90% من الأنفاق مخصصة لتهريب المواد والبضائع الأساسية وذات الإستخدام المدني. ويضيف أن النفق الذي يملكه متخصص بشكل أساسي في تهريب الأدوية، بالإضافة الى بعض المواد الغذائية، حيث يقوم شركاؤه في الطرف الثاني من الحدود بتأمين هذه المواد وإرسالها عبر النفق، حيث يستقبلها هو، ويقوم بتوزيعها. ويضيف أن آلية العمل التي يتبعها بسيطة، حيث أنه يتصل بأصحاب بعض مستودعات الأدوية في قطاع غزة ويطلب منهم تحديد الأدوية المصرية التي يفضلونها لكي يقوم شركاؤه بشرائها وإرسالها الى زبونه. وينوه الى أنه يتفق مع أصحاب المستودعات على أن يتلقى هو وشركاؤه قدر محدد من المال لقاء كل ارسالية. ويشير الى أن بعض اصحاب المستودعات يقومون بالتنسيق مع مصانع الأدوية المصرية التي تقوم بإرسال الأدوية الى رفح ويتسلمها شركاؤه ويرسلوها له. ويؤكد أن عدد الأنفاق زاد بشكل كبير بعد تشديد الحصار اثر سيطرة حماس على القطاع، ويقدر عدد الأنفاق حالياً بحوالي 900 نفق. وأكثر المواد التي يتم تهريبها عبر الأنفاق بالاضافة للدواء حليب الأطفال والمواد الغذائية وقطع غيارات للسيارات والوقود والملابس.
ويقول أن أكثر من 1100 شخص يعملون في مجال حفر الانفاق، منوهاً الى أن كل شخص من هؤلاء يحصل على مبلغ 2400 دولار في الشهر. ويضيف أن هؤلاء العمال " يحملون أرواحهم على أكفهم " بسبب امكانية انهيار الأنفاق اثناء عملية الحفر. ويذكر أن سبعة الأشخاص الذين يعملون في مجال حفر الأنفاق قتلوا اثناء انهيار الانفاق عليهم بينما هم في ذروة عملية الحفر. في نفس الوقت فأن معظم الأنفاق مملوكة لعائلات من مدينة رفح التي تعتبر عوائدها المالي مصدر رزقها الوحيد.
لكن بعض المواد الأساسية لا يمكن تهريبها عبر الأنفاق، مثل الأدوات المصنوعة من الزجاج، الأمر الذي جعل المعاناة الناجمة عن النقص في هذا المواد كبير. صاحب أحد الأنفاق قال ل " ويكلي " أنه من يستطيع تهريب الزجاج فكأنما يهرب الذهب، لكن هذا شبه مستحيل لأن هناك خطر أن يتحطم الزجاج أثناء نقله في النفق. ويؤكد أنه منذ فرض الحصار لم تدخل أي كمية من الزجاج للقطاع الأمر الذي فاقم اسعار أدوات المطبخ المصنوعة من الزجاج بشكل جنوني، منوهاً الى أن سعر ستة من الكؤوس من النوع الرديئ يبلغ 25 شيكل، مع العلم أن سعرها كان قبل الحصار لا يتجاوز الخمسة شواكل. وقد انعكس النقص في الزجاج على الحياة الاجتماعية للفلسطينيين في القطاع.
بشئ من المزاح حاول محمد أبو مساعد ( 27 عاماً ) مدرس الفن الذي يقطن في دير البلح تبرير تقديمه العصير لزملائه المدرسين الذين قدموا لتهنئته بالمولود الجديد في كؤوس مختلفة الشكل والنوعية، قائلاً " هذا تذكير بالحصار ". محمد قال ل " ويكلي " أن كل ما تملكه عائلته ست كؤوس زجاجية، وأنه سيشعر بالحرج شديد فيما لو زاره عدد أكبر من الزملاء إذ أنه لن يكون بوسعه تقديم الضيافة لهم. لكن محمد هو أفضل حالاً من عبد الرحمن العواد ( 46 عاماً )، التاجر الذي يعيل عائلة من 11 شخص، الذي قال ل " ويكلي " أنه لم يعد في بيته أي كأس زجاجي وأنه وأفراد عائلته اضطروا في الآونة الاخيرة لاستخدام كؤوس بلاستيكية، كما أنهم يقدمون الضيافة لضيفوهم في هذه الكاسات. نقص الكؤوس الزجاجية وكل المصنوعات الزجاجية باتت تشكل أهم مظاهر الحصار على قطاع غزة بعد مرور اكثر من شهر على سريان اتفاق التهدئة الذي ينص على سماح إسرائيل بمرور كل المواد لقطاع غزة بإستثناء المواد التي تشك إسرائيل في أنها تستخدم في تصنيع القذائف الصاروخية والمتفجرات. بعض المحلات التجارية التي لاتزال تحتفظ ببعض المصنوعات الزجاجية وتبيعها بمبالغ جنونية قياساً مع سعرها الحقيقي وأوضاع الناس الإقتصادية، الأمر الذي دفع الأغلبية الساحقة من الناس للتنازل عن شرائها، على الرغم من الأضرار الصحية الناجمة عن استخدام المواد البلاستيكية في الشرب تحديداً. واقع الحصار يدفع الفلسطينيون للإتجاه قصراً لحفر أنفاق التهريب.
فبعد أكثر من شهر على التهدئة لازل هناك نقص شديد في الوقود والمحروقات والغاز المعد للطهو. كمية الوقود المحدود التي تسمح إسرائيل بوصولها الى قطاع غزة جعلت الحكومة المقالة في غزة تصدر كوبونات خاصة لتمكين أصحاب سيارات الأجرة من الحصول على كمية من الوقود تترواح من 30 لتر الى 40 لتر من السولار كل يومين. أحد سائقي سيارات الأجرة الذي يعمل على خط غزة المنطقة الوسطى ل " ويكلي " أن هذه الكمية لا تكفيه ليوم واحد من العمل، الأمر الذي يضطره لشراء السولار الذي يتم تهريبه عبر الانفاق من مصر في السوق السوداء بأسعار كبيرة. سائقو سيارات الأجرة تذرعوا بإرتفاع تكلفة الوقود وقاموا من جانب واحد برفع أسعار نقل الركاب، الى جانب قيامهم بإستيعاب عدد من الركاب أكبر من العدد الذي يسمح به القانون. ميدان فلسطين بغزة الذي يضم أكبر محطة لسيارات الأجرة يشهد مؤخراً جدل بين رجال الشرطة وسائقو سيارات الأجرة بسبب رفع الاسعار واستيعاب عدد أكبر من الركاب، لكن هذا الجدل ينتهي في الغالب بإنسحاب عناصر الشرطة الذين يشعرون بالحرج لأن حجج سائقي السيارات تبدو مقنعة. أصحاب السيارات الخاصة لا يحصلون على بنزين إلا في حال كانوا يدفعون مستحقات ترخيص سياراتهم بإنتظام، فهؤلاء يحصل كل واحد منهم على 10 لتر من البنزين كل اسبوعين. لكن معظم السائقين لايدفعون مستحقات الترخيص السنوية، وبالتالي لا يحصلون على بنزين، الأمر الذي يضطرهم الى استخدام غاز الطهو كوقود لسياراتهم. استخدام الغاز الطهو كوقود للسيارات الخاصة فاقم المشكلة الناجمة عن النقص في الغاز. وزارة الداخلية في الحكومة المقالة التي ادركت خطوة تداعيات النقص في الغاز عشية حلول شهر رمضان و أصدرت تعليماتها للسائقين بعدم استخدام الغاز الطبيعي، لكن لا يوجد أي أمل أن يتم احترام هذه التعليمات لعدم وجود بديل أمام السائقين. في نفس الوقت فقد تهاوت آمال الغزيين في أن تؤدي التهدئة الى السماح بدخول مواد البناء. الكمية المحدودة من الاسمنت التي تسمح اسرائيل بدخولها للقطاع أبعد من أن تكون كافية لسد الحاجة الهائلة لهذه المادة. اسامة دعابسة ( 49 عاماً )، الذي يقطن حي " بركة الوز "، غرب معسكر المغازي في المنطقة الوسطى من القطاع قال ل " ويكلي " أنه كان يأمل أن يقوم بإتمام بناء الطابق العلوي في المنزل الذي خصصه لأحد اولاده، لكنه اليوم خائب الأمل بعد أن تبين أنه ليس فقط كمية الأسمنت قليلة، بل ان الاسمنت الذي سمحت اسرائيل بدخوله لا يصلح للاستخدام في عمليات التسليح.
قصارى القول أنه بخلاف ما تحاول إسرائيل تكريسه من إنطباع فأن حفر الإنفاق هو الرد الفلسطيني على الحصار الذي جلب المعاناة والموت للفلسطينيين في القطاع.
www.deyaralnagab.com
|