مسلمو الدنمارك وصناعة العنصرية!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 31.12.2012
لماذا تتزايد مستويات ومظاهر العنصرية ضد المهاجرين والمسلمين في الغرب بشكل مقلق بل ومخيف؟ هناك بطبيعة الحال جملة من الأسباب التي ربما أشبعت نقاشاً منها ترسخ الخلفيات التاريخية المعبأة بنظرة استعلاء إلى الملونين بشكل عام وإلى المسلمين على وجه التحديد، ومنها ازدياد قوة الأحزاب اليمينية في أوروبا والغرب عموماً واستخدامها ورقة المهاجرين في المعارك الانتخابية والسياسية، ومنها تراجع الاقتصاد العالمي ونقصان فرص العمل واشتداد التنافس، ومنها كذلك تسارع وتيرة الزيادة الديموغرافية عند المسلمين. هذا زيادة على بروز جماعات التعصب والإرهاب التي تقوم بما تقوم به باسم الدين وانعكاس ذلك على الجاليات المسلمة كلها. والمقاربة العربية والإسلامية لمسألة العنصرية المتصاعدة في الغرب إزاء المسلمين يغلب عليها التشاكي ولوم الآخرين وتبرئة الذات وتمثيل دور الضحية. وفي خضم التباكي على وضع مسلمي الغرب وما يواجهونه من عنصريات يتم التغاضي عن ممارسات بعضهم وطرائق حياتهم وانعزالهم عن المجتمعات التي يعيشون فيها وازدرائهم لها بما يخلق في أوساطهم عقلية «الغيتو» الانفصالية المنقطعة عن المحيط. وعقلية وحياة «الغيتو» الإسلامية في الغرب تتمثل في الدائرة الضيقة التي يعيش فيها كثير من المسلمين، حيث يتعاملون مع بعضهم بعضاً فقط، سواء تجارياً، أو اجتماعياً، أو ثقافياً، ويرتادون نفس الأماكن (المطاعم، المساجد،... الخ)، وفي المساء يتسمرون أمام الفضائيات العربية! معنى ذلك أن وجودهم الفيزيائي في لندن، أو باريس، أو برلين، أو كوبنهاجن، أو واشنطن لا يعني تماماً حضورهم في المكان وارتباطهم العضوي به. وغالبيتهم موجودون فيزيائياً ولكن ثقافياً واجتماعياً وسياسياً منفصلون عنه تماماً. وهناك أقلية تحاول تفكيك هذا «الغيتو» الثقافي والاتصالي وتقوم بجهود جبارة من أجل إدماج الغالبية في الوسط العام وتحسين أنماط علاقتها مع المجتمعات المضيفة، ولكن جهودها تُقابل بممارسات وسلوكيات مضادة تحبط النتائج المرجوة.
في كوبنهاجن «أبدع» بعض المسلمين مؤخراً في اختلاق مشكلة من لا شيء سوف تُضاعف من مستويات العنصرية ضد الإسلام والمسلمين ليس في الدنمارك فحسب بل وفي أوروبا كلها. وعن هذا «الإبداع» نشرت «الحياة» اللندنية بتاريخ 24 ديسمبر تقريراً مخيفاً من مراسلها في كوبنهاجن يقول التالي: «... في ضاحية كوكيدال التي تبعد 20 كم عن كوبنهاجن قطاع سكاني ضخم بني أساساً لذوي الدخل المحدود يدعى «غيدالسفينغ». بدأ المهاجرون بالتوافد إلى هذه الناحية منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، وإذا كانت نسبتهم إلى السكان الأصليين منذ عقدين 1 إلى 4، فإنهم يشكلون الآن ثلثي مجمل سكان الضاحية. وفي كل عام يتفق المسؤولون المحليون للمجمع السكاني، وهم بمثابة مجلس بلدي محلي، على تخصيص موازنة لإقامة شجرة ميلاد في ساحة الضاحية. لكن هذا العام لن يكون هناك شجرة لأن الغالبية الجديدة المتشكلة من المسلمين في المجلس البلدي أي خمسة أعضاء من أصل تسعة رفضت صرف المبالغ اللازمة لوضع الشجرة. الأمر طبعاً صدم الأعضاء الآخرين في المجلس ومعهم السكان الذين اعتادوا على هذا التقليد. والأغرب من هذا أن القرار جاء بعد أيام من الانتهاء من إقامة احتفالات عيد الأضحى التي وافق عليها المجلس بالإجماع وصرف المبالغ اللازمة لها. بعدها توالى الحديث عن إن السبب يعود إلى غياب الأموال اللازمة بسبب صرفها على عيد الأضحى، لكن الصدمة جاءت أكبر حين رفض الأعضاء المسلمون مجدداً مبادرة أحد رجال الأعمال الذي أراد منح الضاحية شجرة عيد ميلاد على نفقته الخاصة. وعلق أحدهم بأنه كمسلم لا يرى سبباً للاحتفال بعيد الميلاد والموضوع عنده ليس مادياً بل هو مبدئي»!
أي عقل هذا الذي يقود أصحابة لاتخاذ مثل هذا الموقف الذي سوف يسعّر من نيران العنصرية في الدنمارك ضد أكثر من مائتي ألف مسلم هناك. هذا العقل هو الذي سيقود إلى صراعات من نوع مختلف تماماً في المستقبل القريب بين المسلمين في الغرب والمجتمعات المضيفة. وهذا العقل هو الذي يحتاج إلى محاصرة وحجر بكونه ليس فقط مريضاً لذاته بل ومؤثراً على الآخرين، إنه الذي يخرق السفينة فيُغرق الجميع. إن هذه الحادثة وهناك غيرها كثير هي ما يحتاج إلى تأمل عميق من قبل المخلصين ثم العمل على نبش أسبابها ومعالجة جذورها. كيف يمكن إرجاع قرار قصير النظر وغير تعايشي وغير تسامحي مثل حظر إقامة شجرة عيد الميلاد في بلدة في كوبنهاجن إلى أنه «مسألة مبدأ»؟ أين التسامح والتعايش والإقرار بدين الآخر واحترام «لكم دينكم ولي دين»؟
التعصب الذي يطفح الآن في المجتمعات العربية والإسلامية ويدمر كل ما هو جميل فيها ونراه الآن في شوارع المدن المصرية والتونسية والليبية وغيرها، يتغلغل أيضاً في الجاليات المسلمة في الغرب وسوف يعمل على إدخالها في معارك مع مجتمعاتها. وهذا التعصب الذي سيحدد مصير مئات الملايين هو الذي ينبغي أن يُفكر فيه وتُعقد من أجله القمم الرئاسية وتنفق من أجل معالجته المليارات. إنه خطير على مجتمعاتنا. إن كثيراً من الجهود والأموال التي تُنفق حالياً على «تحسين صورة المسلمين» لا طائل من ورائها طالما بقيت أجزاء كبيرة من «الأصل» مشوهة ابتداء. وما يجب تحسينه هو الأصل وبعد ذلك تتحسن الصورة تلقائياً ويصبح من الصعب تخليق صورة مشوهة من الصفر. مثلاً ما هي الصورة التي سوف ينقلها الإعلام عن هؤلاء المتعصبين في البلدة الدنماركية الذين يحرمون بقية السكان من الاحتفال بعيد الميلاد؟ أين سيحدث التشويه، وهل هناك أصلا حاجة لأي تشويه في حين أن الأصل نفسه بشع؟ وأين هو الفارق بين تشويه الصورة والأصل المشوه عندما يريد الإعلام أن يغطي مطالبات بعض السلفيين في مصر بأن يتم شطب الحد الأدنى لزواج الأنثى حتى يتسنى لهم الزواج من القاصرات؟ إذا كان بإمكان المجتمعات العربية والمسلمة، ولو بصعوبة بالغة، إنتاج آليات خاصة بها تستطيع أن تحتوي أو توقف ما تقوم به جماعات التعصب الديني وتقليل منعكساته، فإن الجاليات المسلمة في الغرب لا يمكنها القيام بذلك لأنها ليست هي المجتمع العريض وليس لديها العمق الكافي لامتصاص ذلك التعصب. هناك خطر محدق بتلك الجاليات وهو خطر آتٍ من الداخل ويستدعي من الجميع التدخل قبل فوات الأوان.
www.deyaralnagab.com
|