logo
مأساة منى..!

بقلم : سهير قاسم ... 1.5.07

وافق أهل منى الذين يعيشون في الأردن [وهم من مهاجري فلسطين عام1967] على تزويجها من أحد الشبان الفلسطينيين في الداخل، أعدوا لها حفلة وداع، حزنوا لفراقها ولكنهم أحسوا بذلك أنهم يقتربون من الوطن أكثر من أي وقت مضى. وصلت منى إلى مدينة نابلس وتزوجت دون مشاركة أحد من أهلها، فهم لا يستطيعون القدوم معها. لم تكن تعلم بأنها غادرت أهلها ولن تعود مرة أخرى لزيارتهم على الأقل. عانت الكثير في أول حياتها خاصة أنها غير معتادة على الأجواء، مداهمات إسرائيلية ومطاردة مستمرة لزوجها وتفتيش في البيت بحثاً عن وثائق ومستندات تهمهم. لم تمض فترة طويلة حتى اعتقلوه، إنه جهاد أحد المناضلين الذين لم يتوانوا يوماً عن تقديم العون والمساعدة للمحتاجين في شتى المجالات. وبعد أن أمضى في السجن خمس سنوات، كانت تنتظر بفارغ الصبر خروج زوجها أو تنفيذ الحكم الذي طال تمديده. وأخيرا حكم عليه بالنفي خارج فلسطين. وقفت منى وأولادها الثلاثة (آية ورائد وصامد) لوداع جهاد الزوج والوالد الذي لم يتجاوز الثلاثين من العمر، نظروا إليه نظرة الوداع، غادر الأب مدينة نابلس، ولم تمض ساعات حتى غاب عن فلسطين كلها. "هل سيعود مرة أخرى، ومتى؟ هل سنلحق به نحن"؟ هذا ما كانت تفكر فيه منى في تلك اللحظات الصعبة. عادت إلى بيتها بعزة وشموخ، نعم هذه المشاعر التي كانت تنتابها والناس حولها، ولكن هذه المشاعر ليست الوحيدة إنها مجروحة ومكسورة الخاطر، إنها المرأة التي تحتضن أطفالها الآن ولا معين أو شريك فعلي.
لم يتخل عنها الناس، ولكن ماذا بعد؟ عندما تغلق باب منزلها على نفسها وأطفالها الثلاثة، هل ستعيش عالة على المجتمع، فكرت كثيراً ولكنها قررت العمل لقد كانت في فترة سجن زوجها تقوم ببعض الأعمال لإحدى الجمعيات الخيرية مقابل مبلغاً بسيطا من المال، ولكنها الآن تتحمل مسؤولية أكبر لم يبق هناك أمل على الأقل في هذه الفترة بعودة جهاد أو رحيلها إليه، خاصة بعد أن فرضت عليها الإقامة الجبرية، وهي منذ اليوم ممنوعة من المغادرة إلى خارج فلسطين. وتعيد النظر إلى أطفالها، ما ذنب هؤلاء، لا يمكنها حبس دموعها لفترة طويلة، بقيت على هذه الحال شهر من الزمان مصدومة تحس بالخيبة والفشل، إنها الآن سجينة. وأخيراً قررت أن تعمل وحصلت على عمل بعد جهد جهيد، عملت في إحدى المؤسسات الخيرية خادمة للأطفال فأحست معهم بالسعادة من جهة ومن جهة أخرى هي تقدم لأبنائها اللقمة الشريفة، إنها الآن تقف على رجليها، بعد أن قررت أنه لا يمكنها الاعتماد على الآخرين أكثر.
وأصرت أن تعلم أبناءها، نعم هذه هي المرأة الفلسطينية علمت أولادها مكارم الأخلاق، وظلت تذكرهم بقصص والدهم، فهو مثلها ومثلهم الأعلى في الحياة. أما صامد فهو أصغر أبنائها، وهو دائم السؤال عن والده " لماذا لا يأتي والدنا لرؤيتنا يا أماه مثل الأطفال الآخرين؟ تحاول أن تجيبه ولكن دموعها تسبقها، فيقول لها صامد إن سؤالي يؤلمك، لا أريد منك إجابة يا أمي سأعرف الإجابة حتماً بعد أن أكبر، وسأعرف سبب سفره الطويل، وأنا على ثقة بأن اليهود الذين حدثتني عنهم هم وراء كل الكوارث التي تحل بنا، هم سبب ضياعنا، هم يقتلون الناس بدم بارد، هم من يريدون القدس، ولا يريدون لأهلنا العودة". كان رائد يستمع إلى أسئلة أخيه وتعليقاته وهو صامت لا يحرك ساكناً. ويوماً بعد يوم كبر الأطفال واعتاد رائد على الحديث مع والده كثيراً في الأمور السياسية، كان نشيطاً ومجتهداً في دروسه، أحبه الجميع، وقد بلغ من العمر الآن 17 عاماً إنه من خيرة الشبان.
كان يحس بالمسؤولية تجاه أمه وإخوته، ورأى أن عليه مساعدة والدته في العمل وبالفعل اتفق مع صاحب البقالة الذي يجاور بيتهم لمساعدته والعمل معه. وبالفعل صار رائد يعمل ليلاً، حاولت أمه منعه ولكن دون جدوى. وبعد مضي أقل من شهر وأثناء عمل رائد في البقالة، أقبلت رصاصة من بعيد وخطفت رائد، ففي هذه الليلة سمع إطلاق نار كثيف عقبه مداهمات للبلدة، وكانت الرصاصة الأولى في رأس رائد. ماذا عن أمه الآن، ماذا ستقول لوالده ولأهلها، ماذا ستفعل؟ إنها تعتصر ألماً وتمشي على قدمين مثقلتين في جنازة طالما يحلم بها الكثيرون. ولكن رائد ذهب ولن يعود، إنها تشيع فلذة كبدها إلى المقبرة. ومرة أخرى عليها أن تعيش لأبنائها الاثنين الآخرين اللذين لم يتبق لها غيرهما، لا يمكنها أن تنسى مأساة زوجها وولدها ولكن عليها القيام بواجباتها تجاههما. وتفكر كثيراً في ضرورة رؤية زوجها مهما بلغ الثمن لتبكي على رائد معه، ولكن كيف السبيل؟ هذا ما يشغل تفكير منى، إنها مشوشة وتدخل في أفكار كثيرة وغريبة، ولكنها تصحو من أفكارها على صرخات أبنائها، إنهم من يعيدون إليها الحياة.
ويأتي إليها صامد، الذي اعتاد على الشرود ولكنه ذو ابتسامة عريضة، فيقول لها، "هل سيعود رائد يا أمي؟ هل ذهب ليحضر والدنا؟ وتجيبه رائد حاضر فينا يا بني هو لا يفارقنا، وتسبقها الدموع وتصمت في عالم مشوش تغيب فيه الحقوق، ويسلب الإنسان كرامته.
وبعد مضي أشهر من استشهاد رائد تأتي قوة عسكرية لتأخذ منى إلى السجن، ما السبب، هي لا تعرف، وكل ما تعرفه أنها أم الشهيد وزوجة المطارد، وتذهب معهم ويصرخ الأبناء وتبكي منى وتتحشرج الدموع في حنجرتها، تحس منى بعمق المأساة، أصبحت تحدث نفسها، ما الذنب الذي ارتكبته؟ أم أن هذا هو مصيرنا دون سبب ولكن لأننا فلسطينيون؟ وينتقل أبناءها للعيش في بيت أحد أقارب زوجها، وتبقى الأم في السجن، إنها الآن لا تملك إلا القضبان الحديدية. خسرت الزوج والأبناء والأهل لم يعد أمامها إلا الحلم بفلذات كبدها وزوجها. فهل ستلتقي بهم يوماً ما؟؟؟

المصدر: المركز التقدمي لدراسات وابحاث مساواة المرأة

www.deyaralnagab.com