نهايةُ راكبِ الهَمَرات !
بقلم : د. فهمي الفهداوي ... 22.11.07
وتراه يلهث ، بوصفه صاحب قضية وطنية ، ليس بمقدورك ولا يحق لغيرك ، أن يمنعه عن النبض والكلام والشجن ، وما عليك سوى أن تقرَّ له بالسبق في نقش فكرة النضال الحميم ، وبالتالي أن تحترم لهاثه على عينك وعنادك وما ينتابك من الشك العارض والحرص المفترض .
ثم تراه يلهث مجددا ، ويتلاهث دون حدٍّ ، ولا حدود للهاثه هذا الغريب ، الذي يمضي عليه ، بكل معنى الغرابة ...! فتسمع منه منطق الإشكالية ، وكيفية التفصيل بين عقم خيارات اللسان ، بمقابل جدوى خيارات السنان ، وأنَّ الوردود والأزاهير سوف تحوّل الهمرات والدبابات إلى ماكناتٍ متواصلة لإبادة العراقيين واصطياد الحياة ، وأنَّ حسن النويا لا ينفع مع الغزاة ، لأن الطغاة مشربهم واحد ، وربّهم الشيطان ، وليس سوى الحذاء كفيل ، بمصرع الغزاة وإزاحة الاحتلال ، وكسر الهمرات .
وها .. هو .. يلهث من أجل الوطن ، الذي تحوَّل إلى مدينة مختصرة وشوارع تضجُّ بالاشتعال والمجد والانكساريات ، وأحيانا يبكي ، وينخرط في صلاة يظللها حزن وقور ، ويدخل في سورة صمت غريب ووجل أغرب وارتباكات ملفتة للعتاب ، فأحسبني عالةً على شعوره وممتلكاته ، ومتواضعاً إزاء عظمة عصفه وغضبه وطريقة بصقه على الهمرات المذعورة ، التي تجأر في المسافات والبعيد ، وهي تتخطف ضجيجها من الفزع الشائك .
إنَّه الوطني المنتظر ، الذي قرر أن يخرج إلى الناس من مدرسة الفتية ودار المعلمين وجامعة الطلبة ، ومن مسجد الناس ، وساحات الشعب ، يلهث من أجل العراق ، الذي تحرقت خيامه بالموت والتهجيبر والقتل والنواح ، ومن أجل الناس المُتَّعَبين وأحلامهم البريئة ، التي تشققت بسكاكين الاحتلال ، فلا يُمكنك وأنت العراقي المطعون من الخاصرة في كل شيء ، إلا أن تشدَّ على يديه ، وتنسى آلامك في لحظة استقواء مفاجئة ، لتنهض متجاوزا عن عذاباتك نحو راحة مكان مستعاد من رائحة صافية مخبوءة ، تذكّرك بالبطولات والرموز القدوة من بني البشر .
وتستمر على رؤيتك له .. هكذا ... لاهثاً _ لاهثاً ، وينتابك الأمل الجميل ، لكي لا تحزن ولا تبتئس ولا تحبط ولا تخاف على وطن له من الحب والتحوّط والإحاطة ، ما لم يجعله وطناً سيذهب مع الريح ، بقدر ما يجعله وطناً ملحمياً في معاناته ، التي لم تقو الفجائع على ذهاب روحه وملكوته وبقائه في المعجزات ، حُلماً من الأطفال والبرتقال والأناشيد .
ثم تقف َ مختالاً بقلبك ، لتُحيّ ذلك التتابع السرمدي من العظمة والترسيخ ، وتفرح قرارة نفسك ، وتنتعش دواخلك المنكسرة ، وتشعر بالمعزَّة الغائبة ، وتفتخر بالتماسك المحدث ، وتغدو روحك حائمة في طيران عجيب ، يصل حدَّ التسامي والغرق في الموروثات والأثير والإثارة ، وتشطب فكرة سوداوية ، ظلت تحفّ برأسك وتلازم قناعاتك في لحظات اليأس ، والمحتلون الغرباء يستولون على عالمك الهادئ النظيف بغبار أوساخهم وأخلاقياتهم القبيحة :
- من كونك وحيداً ....!
- من كون قلبك وحيداً ، وثمة كذابون كثر في حياتك المتفجرة ، على قيم وسلوكيات ، مقحمة على وجوديتك ، من خلال الهمرات والتماثيل الأمريكية ، التي يصنعها الاحتلال ، قريبا من أنفاسك وصباحات أبنائك المبللة بالفراغ .
- من كونك حقا لا تشعر بوطن عميق ، يمشى على الطرقات ولا ينام قريبا في المخيلة ، طالما أمريكا الحيزبون تسرق من العراق والعراقيين كحل العيون .
- من كونك وأنت دائماً تُردّد :
ليس عندي أصدقاء ..
لا ولا عندي وطن ...!!
لي حبيب في الغياب ..
وتقاويم شجن ..
ها أنت تراه .. فتؤجل ما لديك من الأفكار والحذر ، وتتخطى على رؤيتك الذاتية في التحفظ الزائد على وصف الإرهاصات والجهود بأوصاف مقلقة ، وتندهش على مدى مسافة طويلة من التفاؤل ، وأنت تراه يمضي مسترسلا – مسترسلا في إحصاء الأكاذيب ، وفي تقصّي المتاهة ، التي حاكها الاحتلال في الرمادي وبغداد وبقية مدن العراق .
تعود إلى قلبك ، وروحك وأنفاسك ، وتقول : أيعقل أن أصادف مَنْ هو أقوى منى حبَّا للعراق والرمادي وطرقاتها وفراتها ، وأشدَّ كرها مني للهمرات العاهرة ، التي حبست إمدادات ذلك العشق كله عن مشاعري ، أيعقل - أيعقل ..؟
هل بمقدور الأسئلة والتساؤلات أن تُغيّرَ الحقيقة .؟ وأيَّة حقيقة .؟
أن تُغيّرَ حقيقة هذا الوطني المنتظر .؟
لماذا لا ترجع إلى الطوامير النائمة ، فتوقظ صفحاتها بالكلام الموثق ، عُدْ إلى قلبك وشكوكك وتصفح ، كُنْ عراقياً مباحاً على فتح باب الجراح ... ورويدا ... رويدا حاول أن ترى الصور والمشاهد ، التي تمنحك التفاصيل المهمة لهذا الوطني المنتظر ، الذي أجهدت مشاعرك من أجله ، وأحرقت عضاتك في سبيل أن يكون مقيما على أعيننا ، وهيا – هيا .. قلْ لنا ماذا ترى :
- منذ البداية ، لم يكن وطنيا ولا منتظرا ، ولا هم يحزنون .... !
- منذ البداية ، كان حذاء ساقطاً ، يلهث مُردّداً مثل انتهازي صغير محفوظات وطنية لم يحفظها جيداً ، فأقعى في البعيد مثل كلب أجرب ، انتهازياً بين الانتهازيين ، وعشائرياً فاقداً لغيرة العشائريين ...!
- منذ البداية ، كان هارباً عن الوطن ...!
- متذ البداية ، عندما جاء ،صار يسرق الامتيازات والمناصب ويولغ في نفق الفساد والتخريب ، طاعناً رفاقه بالغدر ، وحاز ثمرات المفصول السياسي ، الذي يسترجع حقه المفترى عليه بالتزوير ، ليغدو مجنحاً بالفقاعات والذباب ...!
- منذ البداية ، كان يُمثّل على المشاهدين دور الوطني المنتظر بصفاقة ، خارجاً عن النص في أكثر من موقف متأرجح ، وحركة مثيرة للتساؤل وتحتمل الشبهات والشكوك ....!
- منذ البداية ، كان من أوائل راكبي الهمرات في الرمادي ، وكان جليسا لجنرالات الغزاة ، ومعجبا جداً بسلاسة المشروب الأمريكي بعد الكأس الأولى ، عند مروره بين تلافيف الحنجرة ...!
- منذ البداية ، كنتُ قد دونتُ جملة مكتوبة في قصاصة بحقه ، وأنا أراه يدخل الجامعة : هذا أول مَنْ سيخونني ، حلما يصفو له ريش الحلال ، وبالفعل خانني .. وعلى كتفيه ريش الحرام ، لكونه لم يعرف الحلال عبر جميع ادعاءاته بكثرة الحج ....!
- منذ البداية ، كنت أعرف وأتوقع ، كيف ستكون النهاية - نهاية تلك البداية التي عليها الوطنيون المنتظرون ، وما هم بوطنيين منتظرين ، ولا هم يحزنون أصلا ...!
www.deyaralnagab.com
|