logo
محال الأقتراب

بقلم : دينا سليم  ... 25.11.07

تتسرق الى مسامعها نغمات عذبة، لأول مرة تسمعها. تشدو بسحر صوتها الشجيّ، من مكان ما، تنبعث موسيقى هادئة، تتجوّل معها حتى أحلامها.
أرادت الاستمرار باغفاءة اللاوعي التي تداهمها بين الحين والحين، لكن يقظة الواقع كانت قد استحوذت عليها، تملكتها، شدّت أفكارها بذكريات راسخة غير عابرة!
مالت برأسها حيث منضدتها تسائل ساعتها فاذا بها الرابعة صباحا. تطلّ من نافذتها فتلتقي بفجر يتأخر، يرقد بسلام، يأبى نفض اغفاءته الأخيرة عنه، يستيقظ على مهل، يفرك جفنيه بظلاله السكرى، لم يصحُ بعد من خمرة الندماء، ما يزال الليل الطويل يحطّ من عزيمته، وأبواب السماء مغلقه تأبى الانبلاج!
تطأ بقدميها أرض شرفتها تستطلع مصدر الأنغام المنبعثة، لا تزال مصابيح الحديقة مضاءة، تعكس أنوارها الحمراء الهادئة على أزرار الورد، فتذوب بدورها خجلا، تخفي ابتسامتها الرقيقة داخل الأوراق الخضراء، يقظة تتبادل الحديث مع جاراتها، تدهش فتصغي هي أيضا لنغمات عميقة تبعث فيها الدفء والحنان.
تخلّف الصباح عن موعده، وامتلأت الحديقة اهتزازا صامتا لريح هادئة، تموج فيضيق السبيل حيث بقعة السلوى، أرجوحة هزّازة، طالما تأرجحت فيها طفلة، فشابة تنتظر حبيبا لم يتخلف ابدا عن موعد اللقاء، بين أشجار الصنوبر التي باغتت السماء في علّوها، لم تكن فيما مضى عملاقة بحجمها، مُرهبة، بل بروعة انتصابها، رقيها وحزمها الجميل!
سارت في سبيل ضيـّـق، مشت بين الأغصان الشائكة، تعلقت بها النباتات الزاحفة، غمرت سيقانها حنانا ورأفة، التصقت بها تتلاحم فيما بينها مغلقة خلفها الممر.
بات المكان موحشا، محاطا بالرّيبة، لم تطأه قدمها منذ آخر لقاء، وها هي تعود اليه بعد غياب تحاول الانسياب فيه مسرورة، تريد أن تشعر بطمأنينة السّنوات العابرة. حيث هديل الحمام مخترقا اذنيها يوقد روحها مذكراً بروعة الكون وعظمته قائلا: اشكروا ربكم .. مكررا نشيدا صباحيا تتبارى فيه زقزقة العصافير، فتنبري هي ايضا باغنية جماعية دون توقف، تدعو الى السلام، تختلط الأصوات المتناغمة، وتتعالى صيحات الألهام والرفعة، و...أستبدلت جميعها بصوت قيتارة تحوّل فجأة الى صوت مزعج...، كلما اقتربت تاهت في الصخب خطواتها، تشابكت، تعثرت بأرض جافة، راحت تأكل مناطق قدميها، والقيتارة لا تتوقف ... نغماتها تتصاعد وتتصاعد، تسخر من أصابعها المتيبسة، تعلّق نبض قلبها على صخب الأوتار السريعة، واتكأ سكونها بين النغم الهادر والأنغام التي كانت تعرفها. اغتالها اللحن الحزين! أستبدل! تاهت أصوات الفرح والتحقت بالليل المغادر. تتأبط سحابَهُ المترهل، تتقيأ منه الروائح الشاذه التي ملأت المكان، مخلفة وراءها صخبا حزينا، وطنينا رصينا. جمدت أنفاسها خوفا وقلقا، وجلت جفونها وارتعدت للمنظر الرّهيب. اهتاجت رموشها غرقا، وصفعت الريح شفاهها اليابسة. اعتلت نظراتها ستائر نافذتها المُعلّقة، أشباح الغدر تغوص بفضاء غرفتها...غرباء في بيتها، وقدماها تغوصان بوحل أرضها المتشققه. تتبلّل ملابسها من رطوبة الأقدار! الثقوب تتناوب ثوبها فتكشف عن جسدها العاري، تلفظ أنفاسا متقطعة تائهة تحط حيث الباب الرئيس لبيتها... تشمـّـع بالشّمع الأحمر، وشريط بلون الدم يعلن النهاية.
وسادتها ساخنة، وسريرها يتململ في عبق أحلامها، ساعتها تتوقف، وبلاط الحجرة يتخبط بأريج قدميها، منامتها تصيح رأفة وخزيا، وعود القيتارة يقهقه ساخرا!
يتقدم الصّباح لاهثا وريح الخريف تعلو ذلك البيت، تحيطه فيخمد بريقه، حيّ ذلك البريق في قلبها، قائم في نفسها، يتخبط في أعماقها السّاخنة، ثورة مخاض تأبى السّكون، ترفض الاستسلام أمام شريط متكرر... الترحال الذي تأباه وترفضهُ، الترحال لحظات مُرّة يتزامن مع عصر لا نهاية له من الدّمار والخراب. زمان أَستبدل القبلات من فم السعادة حتى المُجون، الى قذائف من فوهة بركان تعلن عن ذلك البيت... محال الاقتراب لقد أصبح مُلكا موقوفا... وبداية جديدة للترحال...


www.deyaralnagab.com