logo
مستنقع الحياة

بقلم : دينا سليم ... 2.12.07

ما زلت أنتظر باص آخر اللّيل, وأنا في طريق المقبرة, أستنفذ جميع قواي حتى أصل البيت, بعد أن كشفت خبايا عاهري الليل أثناء مغامرتي الهامة. أعشق مسيرتي الأسبوعية الخاصة بي, مجنون بسيرة الرصيف وصور السّيارات المتعاقبة التي تدخلني في دوامة الصحو العنيد.
أتبع خارطة خاصة اسمها قدميّ, أمشي والخفافيش تتناوب على إيقاظ الأشجار السامقة في المقبرة الكبيرة.
سأحاول تخفيف معاناة الساكنين المفزوعين داخلها, ببطء سأحرك قدماي اللتان بدأتا تتعاركان على الرصيف, تتخذان المصطبة طريقا لها تارة, وتطويان الخطوات على الشارع الرطب تارة أخرى, صعودا ونزولا من وعلى المصطبة الحافلة بالفراغ.
أحمل الرّاية الذاتية داخلي, أغمض عيناي على الذكرى وأتهم نفسي السّكرانة بالسرور, وحيدا تائها, أعيش عمرا فوق ركام الماضي وأقول متفاخرا:
- ها أنذا في القمة, وصلتها قبل أن يخبو العمر !
عمود الكهرباء القادم أمامي, يشبه استقامتي في لحظة الانتظار فقط , إن خبا فسيصبح مثلي في هذه اللحظات .
خبت العمدان خلفي وأنا أترنح بين الواحد والواحد, غارقا في دوامة المشي التي لا تنتهي, والباص لم يصلني, وأنا بحاجة الى خارطة توصلني الى النوم الذي أصبح بعيدا عن جفنيّ المتآكلين, يغفوان ويصحوان للحظات.
لحظات فيهما تناول الخمر يكون لذيذا, الخمر الذي يرديني قتيلا بين دوامة الأحلام ودوامة اليقظة! أرفض الاستيقاظ على خبر الأشياء, فالأخبار تملؤني وصياح المعذبين لم يعد على محمل الجد, من الكأس أصطنع الجمال, يحدّد ذاتي ويدعني ألاحظ جمالية العالم, يجدّد وجود المكان والقول على الأحداث, يشبع جوع المعدة العقلية, لكنه يأخذ مني عيني الباحثة, ونوازعي الاخلاقية, يقصّر صورتي الشامخة وارادتي المطلقة في تغيير الأشياء.
إرادتي تطلب المزيد, أريد نسيان رائحة جواربي القديمة, أن أقوم بتأسيس روحي من جديد, أن أنسى النساء الخاويات, أن أطمئن خفايا الليل لذكرى المكان, والأمر ليس عاديا ولا روتينيا.
لا أريد أن أفقد كنزي الثمين الذي أدخرته من صواعق البلاد, سواتر القتل, الجوع, الموت, القتل المتعمد, الظمأ, الحروب والنكسات المتكررة في ترميم شعبي, بلدي, نفسي وحياتي.
لن أتكلم عن الخفافيش التي تركتها أعلى أسوار بلادي... فجميعها صارت تحب طيراني. تبدّلت الخفافيش الآن, وأصبحت أركض تحتها, من شجرة الى أخرى, ربما أحظى بجزء من حيضها أو برازها, إنها إشارة الحظ !
ها أنذا الآن طليقا كالعصفور, أرى وأحرك الأشياء كما يحلو لي.
حين وصلت الى آخر محفظة كونية, بدأت أناور الحلم الذي سجلته على مصطبتي الشخصية, شخوصي موجودة في الحياة, ومن الحياة جاءوا, غير الذين ماتوا, ولم يموتوا, أو الذين ماتوا وكأنهم لم يموتوا, أو الذين أبتلعتهم الأرض وكأنهم لم يكونوا !
ها أنذا أحمل أحلامي حتى الرصيف, هربت وتركت صخرتي هناك, حيث لا أحلام, وحتى اليقظة منها سلبوها مني.
أريد أن اصل غرفتي الخاصة, حتى أدثر أحلامي الباقية, ما زلت أحتفظ بأحلام سابقة, أحلاما موجودة داخل رأسي التائه, ضجيجها يدعوني الى البكاء, أبكي مثل المطر المتساقط عزّة, شموخا, وتمردا, أبكي بطريقتي الخاصة, ولن أؤجل الضحك إن غزاني كالقطرات الناعمة المنهمرة الآن... لن أبقى مسكونا بالحزن.
وقفت في محطة الباص, نمرته تضاعف عمري الخمسين, ما زالت الأصفار تستحوذ على حياتي ! لم يصل, لن يأتي, وإن وصل لن أصعد, لن أُصعّد حياتي المضطربة معي داخله, ولن أدع الراكبون يلاحظون انهيار قلعتي.
وضعت أصبعي على نبضي العالي لقلبي, وقفت وليس كل الوقوف وقوف, أستطعت الاستقامة, بحثتُ عنه، أي ظلّي، من بين الأضواء القليلة المتناثرة هنا وهناك, وكأني أبحث عن خفايا الكون.
العالم يضيع من بين الأشياء, هوية مسلوبة, محطّم وجوده ويغزوه التفكير العميق بالشرور, مسكين العالم عندما يتسامى مع عقلي, فأنا أملك جذورا جميلة, تفكيرا نقيا, وحبا عظيما له... لكنه لم يكتشفني بعد...
أشرب المطر السّاقط من أعبائي الثقيلة, تمنيت لو احتفظت بالكأس, كي أضع المطر فيها وأشربه. المطر مالح, أرضي جافة, ألمس حبّات حقيقية, يقذف بحباته داخلي, يتحكم بزمني المجروح, بحركتي وبعقاربي, صرخت في أعماقي, صرخت كالمجنون:
- ما أجمل قداس المجابهة... مع المطر...فقط ...
تواصل نقي جميل, أرفع من كل الكائنات, ذلك الذي يحدث معي الآن, انه عمق الجبروت, عمق السعادة, عمق الحياة أن تنافس المطر بقوتك وحبك للحياة !
رقصت أمام الخط الأخير للطريق الطويل جدا, أمام النيام في أسرّتهم. أحتفلت وحدي, سخرت من الصباح البائس, لم أسمع سوى نفسي الراقصة, كان صخبي جميلا وروحي عائدة من منبر الانتظار.
ما أجمل رحلتي الليلية, بل أصبحت صباحية, فالفجر يغزو المكان وها أنذا أحمل راية الاكتشاف وأعرج الى مخادع الآخرين, الجميع نيام, عرجت الى حيث توقفت الحياة لدى بعض الذين سبقونا الى هناك! الى الأبدية، جحيما كانت أم نعيما...ذهبوا الى حيث لا هنا ولا هناك! تركت المحطة الغافية والرصيف المبلل, لم أهتم لوصول الباص, ودخلت ...


www.deyaralnagab.com