الإنسان، الأخلاقي، النبيل القلب !
بقلم : رشاد أبوشاور ... 31.1.08
فيه كّل الصفات التي تميّز (الثوري)الكامل: الصدق، التواضع، الإخلاص، الحّب: حّب الوطن، والشعب، والأمّة...
هو منذ البداية كبير، ولعلّه لإنسانيّته اختار دراسة الطّب.
(الحكيم) ليست صفة كهنوتيّة،ولكنها تعود لكونه طبيبا،والثورة الفلسطينيّة احتاجت دائما للطبيب المداوي، لا سيّما مع استفحال الأمراض التي تفشّت مع البدايات، تلك التي أعجزت مناضلين مخلصين عن تخليص ثورتنا منها، وبتر من يفشونها ويعيدون إنتاجها.
بتأسيسه حركة القوميين العرب، وصف العلاج لمأساة العرب في فلسطين، فتجاوز (الهزيمة) يكون بيقظة العرب، واليقظة لا تكون إلاّ بأصوات صادقة تشخّص المرض وتحدّد العلاج الشافي.
الحكيم الذي تلقّن مبادئ القوميّة العربيّة من أستاذه قسطنطين زريق، واستقّي الكثير من فكر ساطع الحصري، حرص علي الانتقال بالفكر من التنظير إلي العمل، إلي البناء والتنظيم والحشد، بعد فترة (العروة الوثقي) التمهيديّة في الجامعة الأمريكيّة ببيروت .
الحكيم قرع مع رفاقه المؤسسين حيطان التخلّف، ومع النخبة الأولي من المؤسسين، أطلقت (الدعوة) لتنتشر في بلاد العرب.
الطبيب العائد إلي فلسطين، من لبنان ـ حيث كان يدرس الطّب في الجامعة الامريكية ـ قبل أن ينهي دراسته، مع احتدام الحرب عام 48، رأي مدينته تحتّل، وجرائم القتل الصهيونيّة تقترف أمام ناظريه بجيرانه وأهل مدينته، وظّل حتي آخر أيّام عمره يروي قتل الصهاينة لبعض شباب مدينة اللد، ومنهم جيرانه، بلا رحمة، وبدّم بارد.
مشاهد القتل، والتشريد، والطرد، هي التي دفعت الحكيم لرفع شعار: الثأر.. الثأر من الصهاينة الوحوش الذين قتلوا ابن الجيران الشّاب أمام عينيه!.. والثأر هنا ليس ثأراً (بدويّا)، ولكنه ثأر أمّة من عدّو قاس آثم مجرم، وهذا لا يكون إلاّ باجتثاثه، وطرده من كلّ فلسطين، ودحر خطره الداهم علي الوطن العربي. الحكيم نبّه دائما إلي أن فلسطين ليست وحدها هدف الصهاينة، فأبعد قطر في بلاد العرب مستهدف، ولا يحميه بعده عن أرض المعركة مع الصهيونيّة.
في البدايات كان معه: الدكتور أحمد الخطيب، والدكتور وديع حدّاد، وهو يصفه بالعملي والجيفاري، وآخرون منهم هاني الهندي، وهؤلاء شكلوا الخلايا الأولي التي انتشرت في بلاد العرب، داعية للنهوض القومي العربي، باسم (حركة القوميين العرب)، والتي أرادوها أوسع من حزب... من عرفوه مبكّرا، شهدوا له بالصلابة، والحيويّة، والمبادرة، ودائما: الصدق والإخلاص.
قائد كبير قوميّا كان لا بدّ أن يلتقي بقائد الأمّة: جمال عبد الناصر، وتكريما له يستضيفه جمال عبد الناصر في بيته ليتناول معه العشاء، ثمّ ليلتقي به أكثر من عشر مرّات لتبادل الرأي في أحوال الأمّة.
راهن جورج حبش القومي العربي، الذي رأي في وحدة الأمّة علاجا شافيّا لها من ضعفها، وتفككها، ومقدمةً لأخذ دورها مع الأمم العظيمة الحيّة، علي وحدة مصر وسوريّة كمقدمّة لوحدة عربيّة.
صدمه الانفصال وتبدد الأمل، فهاله أن فجر فلسطين ابتعد بانهيار وحدة مصر وسوريّة، وأن قضيّة فلسطين مهددة بالظلام والتيه، فبادر مع رفاقه لتأسيس (شباب الثار) التنظيم الفلسطيني،صونا للقضيّة،وتمهيدا للشروع في الكفاح المسلّح،فالوحدة العربيّة لم تعد الطريق لتحرير فلسطين، ولا بدّ من التلازم في الهدفين: الوحدة، والتحرير.
منذ عرفته سمعت: اسمع يابا.. هذه العبارة التي طالما خاطبني بها كانت تريحني، فهي أسلوب خطاب حميم مهذّب قريب إلي النفس.
يابا، عندما يخاطبك بها رجل بوزن وقدر (الحكيم) جورج، ليست كما يخاطبك أحدهم مترفعا بغرور ووصاية واستعلاء: يا إبني ...
يابا فيها مباهاة بالبنوّة الصالحة، فيها رضي الأب عن إبنه، فيها تبن بالفكر والسلوك.
اعتدت أن ألتقيه في فترات متقاربة أحيانا، تتباعد بحكم الظروف ـ ظروفه حيث يعيش في مكان آخر، أو يعاني صحيّا، أو لاحتياطات أمنيّة ـ وبدعوة منه دائما.
في دمشق، وعمّان، كان يأتيني صوت أحد الشباب القريبين منه: الحكيم بدّو يحكي معك.. ونتفق علي موعد يحدده هو بلطفه المعتاد.
آخر مرّة في عمّان زرته بعد قرابة ثلاثة أشهر علي آخر لقاء، حدّثني عن مركز دراسات الغد الذي أسسه ويشرف عليه، وطلب منّي أن أقرأ خطّة المركز لنتداول الرأي حولها، في سبيل تطوير عمل المركز بعد أن قطع خطوات لا بأس بها.
بحسب ما أعرف فهو، ربّما، القائد الفلسطيني الذي كان يقرأ بمواظبة، في الأدب، والفكر، والسياسة، والاقتصاد، ويتابع الكتابات الصحافيّة، رغم وضعه الصحّي...
من ميزّات جورج حبش أنه إنسان دافئ القلب، حنون، مسكون بألم شعبه الفلسطيني، وهذه صفات افتقدناها مع استشراء ( البراغماتية) ـ أي المصلحيّة والأنانيّة، وافتقاد المعايير ـ التي باتت علامة فارقة لكثير من القادة الفلسطينيين المزمنين.
كنت أحرص خّاصة بعد (مرضه) أن لا أثقل عليه بالشكوي من الأوضاع الفلسطينيّة، ولكنني كنت استجيب لأسئلته، فأجدني وقد تورّطت في الانخراط في الحديث عن السلبيات، و.. أتنبه فجأةً إلي انهمار دموعه وهو ينفّض رأسه كأنما يطرد كابوسا، ثمّ يمّر براحته علي وجهه وعينيّه محاولا إخفاء الدموع النبيلة .
جورج حبش يتذكّر الراحلين فيبكي، فهم في قلبه أحياء، إنهم ليسوا أرقاما كما في ( لغة) بعض القادة الفلسطينيين: قدّمنا كذا شهيد، ضحينا بشلال دم ..
لمّا كنت أورد بعض الطرائف،والنكت، لتخفيف الهّم، كان يضحك من كّل قلبه...
في بداية الانتفاضة الكبري أرسل لي. سألني:
ـ لو كان ناجي العلي حيّا تري ماذا كان سيرسم ؟
أجبته:
ـ يا حكيم ،ولكنه رسم الانتفاضة، رسم المخيمات، غضب الشعب، رماة الحجارة، ضاربي الخناجر ...
أحني رأسه قليلاً، وساد صمت. فرد راحة يده اليسري ـ يده اليمني أثقلها المرض ـ ومررها علي الوجه، كأن الوجه كلّه تبلل بالدموع حزنا علي فنان الشعب والقضيّة، فنان أوجاع الأمّة وغضبها وقهرها: ناجي العلي...
الحكيم جورج هو رجل قيم، ومثل، وأخلاق، ولذا أخذ مكانته فلسطينيّا، وعربيّا، بهذه القيم، بعناده كمناضل استثنائي، بجرأته، بقدرته خطيبا مفوّها صادقا قريبا إلي العقول والقلوب ...
الحكيم جورج لم يغدر برفاقه، ولا رشاهم بالمناصب، ولا أغدق عليهم المال، فهو لم يكن يتدخّل في الشؤون الماليّة نافحا هذا امتيازات ليكسر عينه، ويستتبعه، مشتريا ذمّة ذاك ليضعه تحت إبطه!
عاش متواضعا، أقرب إلي المتصوّف، منسجما مع فكره، ومع المثل التي حرص علي زرعها في نفوس رفاقه،إن في حركة القوميين العرب، أو في صفوف الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين.
تلاميذه ومريدوه في أوساط الشعب الفلسطيني، والأقطار العربيّة، يلحّون علي مناقبيته، ويرون أنفسهم اقرب إليه من كثيرين حسبوا عليه، وهؤلاء هم الذين، مع المخلصين مّمن سيواصلون حمل الأمانة بعده في صفوف الجبهة، سيصونون فكره وتراثه، وسيلحّون علي التمسّك بالقيم التي ترسم سمات شخصيّته الثوريّة النادرة، والتي لا بدّ منها لتصحيح مسار الثورة الفلسطينيّة .
في مطلع السبعينات، والثورة الفلسطينيّة تبهر العالم، وضعت مجلّة أمريكيّة صورته ـ لعلّها مجلة لايف ـ علي غلافها مع عبارة: أنا لست أرثذوكسيّا.
قصد الحكيم أن يقول: أنا لا أنتمي لطائفة، هو القومي العربي، المعتزّ بثقافة الإسلام التي تشكّل جوهر الثقافة العربيّة.
الحكيم الذي ودعناه في الكنيسة الأرثذوكسيّة في عمّان، هو عربي ، مسيحي، فلسطيني،أممي.
وهو عندي: أرثذوكسي الثورة.. فلا تنازل عن فلسطين، ولا يئس من نهوض الأمّة ووحدتها، ولذا استحقّ أن يهتف السائرون وراء نعشه:
فلسطين عربيّة
لا حلول استسلاميّة
علّمنا الحكيم وقال
بعدي واصلوا النضال.
www.deyaralnagab.com
|