مطر الخريف..
بقلم : رشاد أبو شاور ... 10.2.08
أحببتها!
دفعةً واحدة أحببتها، بلا تردد، أو تساؤل، أو حسابات.
ما دمت أحببتها من طرف واحد، بدون مطمع في أن تبادلني الحّب، فلا حرج علي حتى لو علم (أبو زاهد)...
أبو زاهد صديق قديم، صحفي، يجلس في المقهى ويكتب دون انزعاج من الجلبة، وصيحات لاعبي الورق المباغتة، وهرجهم، وضربات لاعبي طاولة الزهر حجارة اللعب على الخشب، وصيحات الانتصار التي يطلقها واحدهم في وجه الآخر.
بين وقت وآخر، في مناسبات متباعدة، أتردد إلى المقهى. مرّات انتحي بعيدا عن أبي زهدي، وعيناي لا تكفّان عن مراقبته، إلى أن يرفع رأسه متنهدا بعمق،وهذا يعني أنه فرغ من الكتابة، مناديا وصفي بأن يحضر له فنجان قهوة مضبوط يرتشفه على مهل باستمتاع.
عندئذ أتوجّه إلى حيث ينتحي في زاويته، فيهّش في وجهي وينهض نصف قومة، وهو يمّد يده، بينما جسده الثقيل يختفي وراء الطاولة.
_ يا هلا، يا هلا.. من زمان لك هنا؟
- لم أشأ أن أزعجك.
رايتها تدخل، ثمّ تتجّه من الباب مباشرة إلى حيث يجلس أبو زهدي، وتمّد راحتها بأصابعها البيضاء الناعمة لتدخل في راحته السمراء الكبيرة، في حين أخذ يرحّب بها:
_ أهلا ببنت الحبيب، أهلاً بالوردة...
دعاها للجلوس فشكرته، مالت على أذنه وهمست له بشيء، ثمّ أخرجت من حقيبة يدها بطاقة وضعتها في يده، فهزّ رأسه،وهو يردد:
_ على عيني، هذا يسّرني، إن شاء الله نراك فنّانة عالميّة...
أنا دخت، اتّاخذت، تهت في تأملها كلّها.
الجو خريفي، نسمات باردة منعشة تقتحم فضاء المقهى الفسيح.
لفحة زرقاء حول عنقها، وقميصة ناعمة الزرقة، وسترة جينز.
وجهها حبّة برد.. لا، وجهها لؤلؤة شديدة الشفافيّة، رموش عينيها سود، وشعرها مفروق من المنتصف، ينسدل على كتفيها وخلف رأسها.
ملكة!
سرحت. سألني صديقي:
_ أين سرحت، الديك كتابات جديدة أيها العجوز؟!
_ مللت الكتابة، و..أريد أن أعيش، أن...
المكان خانق رغم اتساعه، فهو مغلق بسبب برد الخريف، والمدخنون كثيرون، ودخان الشيش يتصاعد مالئاً الفضاء...
أوحيت لأبي زهدي كأنني أعاني من ضيق تنفس، استأذنته بالخروج قليلا والعودة فيما بعد، لأنني بحاجة لهواء فيه أكسجين.
وأنا أغادر، ألح علي ما كنت قرأته عن أن في القلب شبكة أعصاب تفكّر كما لو أنها عقل صغير، وأن القلب يحّب فعلاً!
ألهذا يردد العشّاق لمحبوباتهم أنهم يحبوهن من كّل قلوبهم؟!
أيفكر هذا العقل الصغير ويتخّذ قراراته بسرعة، مورّطا صاحبه في حب لم يتهيّا له؟
رأيتها تقف عند ركن بيع الصحف والمجلاّت فتأملتها. التفتت فرأتني، وبعد صفنة بدا كأنها تذكّرت أنها رأتني قبل قليل أجلس مع أبي زهدي.
ابتسمت لي كأنها تقول عرفتك...
أنا أيضا ابتسمت لها، ركّزت نظري على المجلاّت والصحف في يدها، وهي تنتظر بقية الحساب...
سألتها بدون تفكير:
_ هل قرأت، ما دمت تحبين القراءة أن القلب فعلاً يفكّر؟!...
( كيف خطر لي أن اسألها هذا السؤال؟!)
ابتسامة واسعة، وحركة لطيفة من الرأس إلى الوراء كأنما لتوسّع مساحة الرؤية:
_ يفكّر و..يحّب! نعم. لقد أعادوا الاعتبار للقلب...
(جميلة وذكيّة)
وددت أن أطيل الحديث معها، أن أقول لها: الشعراء لم يكونوا كاذبين أبدا، فهم اكتشفوا وظيفة القلب العشقيّة قبل الأطباء بمئات السنين...
_ باي باي عمّو
مرقت بين السيّارت برشاقة كما لو أنها راقصة باليه.اختفت وراء زاوية الشارع المقابل.
بذهول ووجد:
_ أنا هلكت، هلكت والله هلكت.ها أناذا في الستين و....كلّه من عضلة القلب، من العقل الصغير الذي...
اندفعت بين السيارات، في حين أخذت أمطار خريفيّة تنّث بنعومة.
لو وجدتها، ماذا سأقول لها؟
_ أريد أن أستشيرك في دراسة المسرح. معك في المعهد، ترى هل أيقبلون بي بعد كّل هذا العمر؟
لا يكفي، فلأضف: عندي مسرحيّة عن رجل ستيني يحّب فتاة جميلة في الثانية والعشرين و...
جلست في مدخل بناية، على الدرجات.
طويت رأسي على صدري، فسمعت نبضا غريبا، لم آلفه، فتنفّست بعمق، وفردت ذراعي، وهيّء لي أنني على الخشبة، وأنا أصيح:
_ إذا كان القلب يفكّر، ويختار، فلماذا لا نستجيب ل..ل..إنني أنظر بعد كل هذه السنين، إليك كما ينظر الغريب إلى الدرب الذي قطعه مبتعدا عن بلده. آه: كيف أعود القهقرى، وكأنني لم اقطع كل تلك المسافة، لبدأ معك من جديد!.
أغمضت عيني موهنا. سمعت خطوات تصعد الدرجات، وأحدهم يتمتم مندهشا:
_ يا إلهي!.. أيكون قلب الرجل قد توقّف من مطر الخريف!
قفز العابر الدرجات مبتعدا، فهمدت مرتجفا، وحيدا، بينما نبض قلبي يخفت...
www.deyaralnagab.com
|