logo
في انتظار شمبانيا !

بقلم : ميسون أسدي ... 2.3.08

وصلت مطار "هيترو" في العاصمة اللندنية، عند الساعة الثامنة صباحا وكان بانتظارها "جون" مندوب عن المؤتمر الاقتصادي الدولي، بلباسه الرسمي وربطة عنقه السوداء وهو يحمل لافتة مكتوب عليها Nadia Abo Elasal.. أشارت إليه بأنها المطلوبة، حيّاها بكل أدب، حمل حقيبتها وسار معها إلى السيارة الفخمة التي تنتظرها خارج المطار.
انطلقت السيارة إلى الفندق.. جلس جون بجانب ناديا في المقعد الخلفي وبدأ يشرح لها عن سير المؤتمر الذي بدأ بالأمس.. وبينما هما يتبادلان أطراف الحديث، مرا بجانب حشد من المتجمهرين يرفعون لافتات باللغة الانجليزية ويهتفون هنا وهناك، وامرأة تنادي بمكبر الصوت: Pay no poll tax ومن ورائها يردد الحشد رجال ونساء: Pay no poll tax.
قال "جون" موضحا: إننا نعيش فترة زمنية صاخبة وهناك شغب في الشوارع ضد "ضريبة الرأس".. نظرت ناديا من حولها، فرأت لافتات علقت على معظم البيوت في الشوارع، تنادي بعدم دفع "ضريبة الرأس"، فطلبت من جون أن يحدثها عن هذه الضريبة.
تنحنح جون وقال: تحسب الضريبة حسب عدد الأشخاص في البيت وليس حسب مساحته، فالغني الذي يملك القصور ويعيش فيه مع زوجته وابنه يدفع أقل من عائلة فقيرة وعديدة الأنفار.
- وهل توقعتم مثل هذا الاعتراض؟
- قوبلت الضريبة بمعارضه شعبيه واسعة.. شعر الناس بعدم عدالة هذه الضريبة القاسية التي فرضتها رئيسة الحكومة "مارغريت تاتشر"
- أخبرني من فضلك ماذا يفعل البسطاء من الشعب لمواجهة هذه الضريبة؟
-أقيمت في الأحياء الفقيرة لجان شعبية من الشباب، تحمي السكان وتتصدى لأفراد مكاتب الجباية الذين كانوا يأتون للحجز على محتويات البيوت..
استمر جون بحديثه، فأسندت رأسها إلى الوراء وسرحت بخيالها.. عادت سنوات بعيدة إلى الوراء.. حيث كانت في سن الرابعة عشر.. عندما أنهت تعليمها الإعدادي ونوت الالتحاق بالتعليم الثانوي.. وهذا الحلم صعب المنال في قرية لا يوجد بها مدرسة ثانوية، والسفر إلى أقرب مدرسة، يعني أولا تكلفة مادية لوالدها، وثانيا يعني خروج فتاة من القرية وهذا لا يتماشى مع الأعراف القائمة في العائلة، لكن عقلها الطفولي لم يفكر بالصعوبات، كانت تعرف أنه بمجرد موافقة والدها، ستسير الأمور على ما يرام، لكن العقبة كان هو عمها، الذي يعتبر نفسه متعلمًا ومتنورًا ويقرر في مثل هذه الأمور.. جاء عند أبيها وتحدث عنها وعلى مسمعها وكأنها نكرة، لم يذكر حتى اسمها، فكان يقول: لا تعلمها.. يكفيها ما تعلمت.. سندبر لها وظيفة في مجلس القرية.. لم تجرؤ ناديا على التعقيب، ولكن حال ذهابه، استفردت بأبيها كما اعتادت وتوسلت إليه، بأن لا يستجيب لأقوال عمها.. وبأنها ما زالت صغيرة على العمل.. المفاجأة أن والدها وقف إلى جانبها وكانت نقطة تسجل لصالحه، والنقاط لصالحه ليست بكثيرة. فوالدها كان يتحين الفرص ليظهر أنه مستقل في الرأي ويسير خارج سلطة شقيقه الذي يفرضها باستمرار.
أنتظر والدها بفارغ الصبر انتهاءها من الثانوية حتى تعمل وتعود عليه بالفائدة المادية، وليجبي منها "ضريبة الرأس"! بينما حلمت ناديا بالوصول إلى الجامعة، ليس بهدف العلم فقط، بل للهروب من سلطة الأب وكانت تتوقع رفض أبيها الذي يحسب الأمور بطريقة الربح والخسارة، لكنها اعتقدت أن التحاق شقيقها الأكبر للدراسة العليا في جامعة القدس من قبلها سيندرج عليها أيضا.. وتحينت وجود والدها لوحده كالعادة وفاتحته بالموضوع: أريد أن التحق بـالجامعة لدراسة موضوع الاقتصاد.. فضحك وقال باستهزاء: ماذا سيفيدك الاقتصاد؟ ماذا ستحسبين، ولمن ستعّدين الأموال؟ "ما في تحتنا ولا فوقنا"
-سأعمل عاما أو أكثر لتوفير المال من أجل تعليمي..
-حسنا.. اذهبي واعملي وسنرى كم ستوفرين.
عملت ناديا ورديّتين في قطف الثمار، تبدأ العمل في الساعة الخامسة صباحا وتنتهي في الساعة السادسة مساءا وكان العمل شاقا، تحت أشعة الشمس ووخز الأشجار ولفح الغبار، تشققت يداها وأصيبت بشرتها بحروق بقي أثرها لسنوات عديدة، وما جمعته من نقود في عام، كان يمكن أن يمول دراستها لسنتين وأكثر.. لم يسمح لها والدها بأخذ قرش واحد من راتبها، بل فضل صرفه على تعليم أخيها مدعيا: "حين يحين دور تعليمك سنبحث الأمر"..
أرسلت ناديا أوراقها إلى الجامعة وتم قبولها، وعندما اقترب العام الدراسي، توجهت إلى والدها تطالبه بتنفيذ وعده لها فأجابها: "بعد بكير".. أخوك أحق بالنقود.. انتظري عامين حتى ينهي دراسته... فقالت له غاضبة: أين ما ادخرته من مال؟
- لقد تم صرفه على أخيك والعائلة..
-لماذا؟
- أنا أقرر كيف أصرف المال وليس أنت؟
-أريد ما وفرته من مال من تعبي وعرقي، هذا حقي.
-ألا تفهمين.. لم يبق منه فلس واحد..
- لقد وعدتني وأخليت بوعدك..
اشتد النقاش بينهما وانتهي بضربها.. لم تستسلم ناديا، توجهت إلى والدتها وأقنعتها، بأنها ستعمل أثناء الدراسة وبأنها ستتكفل بتمويل دراستها.. وكانت الوالدة تعرف كيف تأثر على زوجها وبعد نقاش مضني معه، رضخ لمطلبها..
مع بداية دراستها الجامعية، أخذت تعمل في المساء في أعطاء دروس خصوصية، كي تمول التعليم وأجرة السكن وغيرها،وعملت في تنظيف البيوت أيضا، كانت تجوع أحيانا وتستغل وجودها عند أحد الطلاب الذين تدرّسهم لكي تتناول العشاء في بيتهم، فيما كان شقيقها يأكل في أفخر المطاعم ويملك هاتفًا خلويًا وجهاز تلفزيون وجهاز تسجيل وغيرها من الكماليات التي لا يحتاجها الطالب.
مرت أربعة أعوام من الدراسة بلمح البصر، كان والدها بمساعدة الأقارب المتعاونين مع السلطات، قد دبر لها وظيفة معلمة في المدرسة الإعدادية في القرية رغم وجود العشرات من الأكاديميين العاطلين عن العمل..
عادت "ضريبة الرأس" من جديد، فمع نهاية كل شهر، كانت تواجه والدها وأشقاءها عندما يطالبونها براتبها الشهري.. تمضي الأشهر ويمضي راتبها إلى جيب الوالد، وكانت كلما ترغب بشراء شيء لنفسها، تطلبه كالمتسولة.
خشي أفراد العائلة نهاية الشهر.. فلم تتنازل ناديا عن راتبها بسهولة، كانت تهاجم والدها وتستفز أشقاءها بأجوبتها اللاسعة وكانوا يوسعونها ضربا. وتهب والدتها لحمايتها، فتتلقى بعض ضربات زوجها، وتصرخ: يا ويلكم من الله، ضربكم هذا على ظهرها سيؤذيها، لن تحبل ولن تلد أطفالاً..
لم تخف منهم ناديا، ولم تبك.. كانت ترمقهم بنظراتها المشمئزة وهي تعلم علم اليقين بأن الأمر مؤقت وهي بحاجة للتفكير بطريقة ذكية للهروب من هذا المأزق.
خططت لترك العمل والقرية، أصبحت تتغيب عن المدرسة بحجج واهية وتختلق المشاكل مع المدرسين والطلبة وذويهم وتستفز مدير المدرسة، وتهينه متعمدة، حتى وجه إليها رسالة فصل من العمل.. فأخذت تتباكى أمام الأهل، وادعت بأن المدير لم يستلطفها ولا يهتم لمصلحة الطلاب، وأضافت: هناك إعلان عن وظيفة شاغرة في المدينة.. السكن مجاني والراتب مضاعف، وما يزعجني يا أبي، أنها خارج القرية! لكنها تدر مالا وافرا سيساعدك في إنهاء بناء بيت أخي الصغير.
لم ترحب العائلة بقرارها، ولكن مرّة أخرى، كان حساب الربح والخسارة هو سيد القرار..
انتقلت إلى المدينة...حاولت مرارا إقناع والدها بالتخلي عن راتبها ولو مرّة كل شهرين، وفي كل مرّة كانت تصطدم بجميع أفراد العائلة مطالبين إياها بالعودة إلى البيت.. يلوحون بسيف الشرف والدين "فالبنت الشريفة تعيش بكنف والديها وإخوتها، البنت تخرج من بيت أبيها إلى بيت زوجها ومنه إلى قبرها.. وعندما يحتد الصدام يعلن والدها " بنتي عاهرة"!! لكن ناديا كانت تفضل أن تواصل دفع "ضريبة الرأس" على أن تسلب منها حريتها، فاضطرت إلى العمل في وظيفة إضافية في المساء.
تدحرجت دمعة على وجنتيها ومسحتها بخفة لئلا ينتبه إليها جون.. فإذا به يقترب ويهمس بأذنها: هل أنت معي في موضوع الضريبة..
-الحقيقة أنا في مكان آخر، يجني نفس الضريبة من النساء ولم تقم أي امرأة بتعليق لافتة على شباكها، "لن أدفع ضريبة الرأس".. لم يفهم جون ما قصدت، تبسم لها... وهي أخذت نفسًا عميقًا وزفرته بشدة وأرخت رأسها على مقعد السيارة وأغمضت عينيها من جديد...
بعد سنوات، من عملها المضني، حصلت ناديا على وظيفة في وزارة الاقتصاد وخلال فترة قصيرة،تم تعيينها كمستشارة اقتصادية وبدأت صورها تظهر بالصحف والتلفزيون إلى جانب الوزير.. كانت ناديا تعرف ما أهمية هذه الوظيفة، فهي الآن محسوبة على السلطة، وأكثر ما يخافه والدها وباقي أفراد عائلتها هي السلطة.. عندها تجرأت وقالت لوالدها وبحضور جميع أفراد العائلة الذكور منهم والإناث وبحضور عمها الأكبر: اسمع يا أبي، من اليوم وصاعدا، لن تأخذ راتبي.. ولا أريدك أن تنعتني بكلمات نابية...
نظر إليها والدها والجميع يترقب ردة فعله صامتين، وحتى عمها الذي لم يعط والدها في السابق حق الكلام، صمت هو الآخر.. وكان الوالد يعرف التهديد الذي يختبئ في طيات طلبها هذا.. فقال: سبقتني في الحديث، لقد أخذت منك ما يكفي وأنا لست بحاجة إلى نقودك بعد!! التفت ناديا إلى جميع أفراد العائلة وخاصة الإناث، وهي تبتسم بسخرية.. وتتذكر نعته لها بالعاهرة..
بعدها، انتشر خبر ما فعلته ناديا مع والدها وتوجهت لها العديد من فتيات القرية لتتدخل وتفض مشاكلهن مع أبائهن، وقد نجحت في الكثير من القضايا وكان والدها إذا اجتمع مع نفر من الناس وظهرت صورة ناديا في إحدى الصحف أو على شاشة التلفزيون، كان يردد بفخر: هذه ابنتي درست في الجامعة.. موضوع الاقتصاد...." لقد صرفت دم قلبي عليها" وهذه ابنتي وهذه ابنتي...
وصلت السيارة التي تقل ناديا وجون إلى الفندق وقبل أن تنزل نظرت إلى جون وقالت له: أتعرف يا جون.. في شرقنا يجب أن نعلق على شبابيك وسطوح بيوتنا: "هنا لا تدفع ضريبة الشرف"..
لم يفهم جون ما قالته ناديا، لكنها قالت له بهمس: تاتشر وحكومتها سيسقطان إذا استمرت هذه الضريبة، فأنا أعرف حكومة أخرى فرضت ضريبة مشابهة وسقطت بفضل احتجاج مواطن واحد.. فكيف مع هذا الاحتجاج العارم الذي تشهده بلادكم؟!
بعد أسبوع، عادت ناديا إلى البلاد وقدمت العديد من المحاضرات عن المؤتمر الاقتصادي الذي شاركت فيه وتكلمت أيضا عن "ضريبة الرأس"، وفي صباح أحد الأيام، كانت تجلس في مكتبها وإذا بالسكرتيرة تبلغها بأن على الهاتف شخصًا يدعى "جون بيتر" من لندن.. رفعت السماعة ولم تكد تجيب حتى سمعت صوت "جون" من الجانب الآخر يقول: ناديا استمعي إلى نشرة الأخبار.. لقد سقطت حكومة تاتشر، مثلما توقعت.. كل الاحترام لك.. فأجابته ناديا: أنا لا أهتم كثيرا بسقوط حكومة تاتشر.. سأدعوك إلى البلاد على حسابي الخاص لنفتح زجاجة شمبانيا ونحتفل بعد أن تسقط حكومات الشرف عندنا..
مرّة أخرى لم يفهم جون قصدها ولكنه قال: هذا وعد وأنا بانتظار الشمبانيا..
حيفا

*قاصه فلسطينيه

www.deyaralnagab.com