الرواية العربية: الجرأة والضمير الكاشف !
بقلم : د. خالد الحروب ... 20.3.08
تتيح مناسبة الإعلان عن الفائز بجائزة بوكر للرواية العربية، في أبوظبي مؤخراً، وفوز الروائي المصري بهاء الطاهر بها، فرصة لإعادة التأمل بموقع ودور الرواية العربية والكتابة الإبداعية عموماً في مقاربة السياق الإجتماعي والثقافي العربي العام. ويزيد من الدفع لمثل هذا التأمل ليس فقط طبيعة الموضوعات التي تناقشها الروايات التي وصلت إلى القائمة القصيرة للحصول على الجائزة من ضمن أكثر من 130 رواية متنافسة، بل وأيضا جرأة الطرح وتقدميته المُقدمة في شكل درامي وروائي ناجح وغير وعظي أومؤدلج. الشيء اللافت الذي يستحق التوقف عنده هو دلالة العدد الكبير للروايات المتنافسة على جائزة مازالت حديثة وغير معروفة تماماً، ويتم الإعلان عنها للمرة الأولى. يشير ذلك إلى نهوض لافت لا يمكن إغفاله في المشهد الروائي العربي شاملاً معظم البلدان العربية. قراءة الأسباب المفسرة لمثل هذا النهوض وللزيادة المرئية في عدد الروايات العربية الصادرة كل عام تقع خارج إطار الفكرة الأساسية لهذه السطور، وربما تستحق وقفة خاصة بها عن قريب.
لكن ما يُراد التركيز عليه هنا هو الزعم بأن الرواية العربية الراهنة تشكل خط السجال الأمامي والحقيقي والأكثر جرأة في الفكر والنقد المعاصر الخاص بالمجتمع العربي، متجاوزة أدبيات المفكرين والسياسيين والاكاديميين وغيرهم من مثقفي اللحظة الحالية. ما تمتاز به الرواية هوتقديمها لرؤية ذاتية حادة وغير مساومة لتفاصيل وزوايا عالم الفرد والمجتمع، متوقفة عند ظرف ما أومعاناة أولحظة تخترق من خلالها عوالم لا يصل إليها غير الروائي، ولا يمكن لمعالجة أكاديمية أوعلمية أن تنفذ إليها. الرواية العربية الحالية أكثر كشفاً من كونها المرآة المحدبة للفشل العربي الذريع في كل الصعد، وأبعد من أن تُحصر بكونها آلية تعرية قاسية لكل الخيبات، بل يُضاف إلى ذلك اقترافها لجرأة نادرة في تسمية الأشياء بأسمائها والتحريض على استئصال سرطانات الإعاقة الجماعية. "الجبروت" المحبب للرواية يكمن في أن المضمون الذي تحتويه يطيل من قامته، ويوسع من قاعدته، الشكل الجاذب واللغة الحرة والذاتية المفرطة للكاتب أو الكاتبة.
أتيح لي قراءة خمس روايات من الست التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة بوكر، وكان في قراءتها متعة حقيقية أكدت تعزز الآفاق الجديدة التي ترتادها الرواية العربية المعاصرة، ورياديتها الفكرية في زمن الجمود الاجتماعي والتردد الفكري والتردي السياسي العام. ليس من الإنصاف بالطبع تلخيص خمس روايات أوحتى الإشارة العابرة إليها في مقالة قصيرة. فالرواية كنص إبداعي تظل عصية على التلخيص، بخلاف أي نص آخر، أكاديمي أوصحفي مثلاً. وتستلزم المغامرة بمحاولة التأشير إلى هذه الروايات الاعتذار سلفاً عن الإخلال الحتمي والقصور عن الغوص في الذائقة الحقيقية والمسهبة لكل من تلك النصوص. لكن ما يُراد التوكيد عليه هنا، وكمسوغ لمثل هذه المغامرة، هوعنصر الجرأة والمواجهة الذي تحتويه هذه النصوص جميعها. وهي جرأة غير مفتعلة ولا تظاهرية، لكنها تنبني بشكل طبيعي ومقنع. الرواية الأولى الفائزة بالجائزة الأهم هي "واحة الغروب" لبهاء الطاهر، وهي إطلالة على مصر الخديوات والحكم الانجليزي في نهايات القرن التاسع عشر، مترافقاً معها الغوص في تحليل جزء من حالات "التسليم" بالأمر الواقع والاستسلام للذة الماضي التليد، الفرعوني والإغريقي، هرباً من مواجهة الحاضر الاحتلالي. واحد من المسارات المتعددة للرواية يركز على هوس بعض أبطالها بالأجداد الفراعنة ومجدهم وبالإسكندر الكبير ومحاولة إثبات أن قبره يقع في واحة سيوة النائية والواقعة على الحدود المصرية الليبية. هذا الإنشداد المعيق للماضي هو الذي يستفز بطل الرواية الغارق في مسار صراعي آخر بينه وبين نفسه، وينتهي به إلى "حرق المعبد" والمتوقع أن يكون قبراً للإسكندر وهويصرخ أنه من دون قتل هذا الماضي المُستحوذ على الحاضر وأهله فإن المستقبل نفسه سيظل حبيساً.
بقية الروايات الأخرى تتضمن "أرض اليمبوس" للأردني إلياس فركوح، وجرأتها الروائية والفكرية والتأملية متعددة الأوجه. ففضلاً عن شكلها التجريبي المثير حيث الراوي ينشطر إلى مخاطِب ومخاطَب يتبادلان الحديث المطول حول مسيرة مزنرة بالخيبة، هناك فكرة الأرض الوسطى، أرض الحيرة، التي يؤول إليها هؤلاء الذين يجدون أنفسهم وسط معسكرين. "اليمبوس" هي، بحسب التقليد المسيحي، الأرض التي يخصصها الرب خارج الجنة لأولئك الأطفال الذين يموتون قبل أن يتم تعميدهم، أما أولئك المعمدين من الأطفال فإن مآلهم الطبيعي الجنة. بطل فركوح "اليمبوسي" موزع بين القدس وعمان، يدرس هنا وهناك، ويتشظى حُبه هناك وهنا، ومع الحرب يعيش حياته في عمان، وتعيش حبيبة طفولته في القدس. وعندما تحيل حوادث السياسة كل البشاعة على ضفاف الحب فلا يعرف صاحبنا إلى أين ينتمي: أفلسطيني هوأم أردني، فهؤلاء لا يريدونه، وهؤلاء يتعجبون من رغبته بأن يصير "معهم" وهو أصلا "من أولئك".
"مديح الكراهية" للروائي السوري خالد خليفة، تشد جرأة المعالجة فيها إلى آفاق لم تصل إليها الأدبيات السورية المعاصرة: مواجهة المجابهة العنفية بين الإخوان المسلمين والنظام في عقدي السبعينيات والثمانينيات. لسنا هنا أمام مقاربة تقليدية بل مبدعة حقاً، وعلى لسان فتاة، وليس الشاب، بما يفاقم من حدة الجرأة والكشف. بطلتنا تغرق في التنظيمات الأصولية وفي "الكراهية" للآخرين نظاماً وطائفة. والنظام وأجهزتة الأمنية يصبان كراهيات فوق كراهيات فتصير "الكراهية" هي البوتقة التي تضيع فيها الروح: كراهية تمتد إلى الذات والجسد، الكراهية التي من دون التحرر منها فإن قتل اغتراب الفتاة، البطلة - ومن ورائها المجتمع - التي لم نعرف اسمها يظل مستحيلاً.
الروائي المصري "مكاوي سعيد" كاتب الرواية الرائقة وسريعة الايقاع "تغريدة البجعة" يقدم سلسلة متواصلة من الصفعات في وجوه التحزبات السياسية والنظام السياسي نفسه، إذ يتبادلان الفشل على خلفية مجموعة من الشخوص الذين نرى فيهم تشوّهات ما أنتجه تكالب الظروف في مجتمع لا يني ينتقل من ضغط لآخر. كل من رشف شاياً في "المطعم اليوناني" فوق "غروبي" في قلب القاهرة ويعرف جانباً من نضالات مثقفيها وانتصاراتهم الصغيرة وانتكاساتهم الكبيرة، سوف يرافق أبطال الرواية ويصير واحداً منهم. سوف يشارك البطل في عشق زينب، وسوف يموت معه حين يموت و"يغرد تغريدته الأخيرة".
أما جبّور الدويهي من لبنان في "مطر حزيران" فهو الأكثر جرأة وشجاعة، إذ يكشف لنا عفن عادات الثأر وصراعات العوائل على النفوذ والولاء السياسي ومن أجل "الزعرنة"، في القرى المسيحية في جبل لبنان في الخمسينات والستينات وما تلاها. نتذكر بأسى ونحن نشم رائحة الدم المراق بلا سبب، والمعارك التي تنشب لأتفه أمر... روايات لا تحصى كشفت لنا عن عفن كثير من التقاليد في الريف والقرية في أكثر البلدان العربية. لا نستطيع إلا أن نرسم متوازيات بين العفن هنا وهناك، وكأنه القاسم المشترك لمجتمعات المنطقة الذي وحده يستوجب التحالف ضده، تحالف المسلمين والمسيحيين.
الرواية السادسة والأخيرة ضمن القائمة القصيرة والتي لم يتح لي قراءتها هي "أنتعل الغبار وأمشي" للكاتبة اللبنانية مي منسى، وتجب الإشارة على الأقل لعنوانها واسم كاتبتها هنا.
www.deyaralnagab.com
|