يا غربتي..!
بقلم : نداء يوسف ابونوفل ... 24.1.09
رحلة اثني عشرة سنة من التفوق مرت، تبعها خمسة أعوام من التميز الدراسي، سبعة عشر عاما من الجهد قضاها عصام في تلقي العلم، وها هو بعد كل ذلك الكد والجهد قد نال الشهادة الجامعية في الهندسة الكهربائية، كانت فرحته لا توصف بما حققه من تميز، فبدأ يفكر بعد ذلك في خوض معركة العمل، ليكون نفسه ويحقق بقية أحلامه، هذه الأحلام التي لا يكاد يحقق أحدها حتى يكون قد جهز غيره، لقد صار عصام مهندسا، فكيف له ألا يعرف كيف يصمم أحلامه، أو كيف يسعى لتحقيق تلك الأحلام
لم يجد عصام فرصة مناسبة في فلسطين، فتخصصه وطموحاته لم تجد لها مطرحا في هذا البلد، يبدو أن ذلك كان بسبب السياسات المقيدة للعمل، كذلك العوائق التي يفرضها الاحتلال لتعيق تحقيق طموحات الشباب الفلسطينيين، وحلم عصام كان تعويض ما فاته من الوقت، وأن ينجز مثلما أنجز غيره من حملة شهادة الهندسة، ود لو تتسارع وتيرة حياته، ليحقق ويبدع، فهو يحلم ويحلم، وفي بلده لا يوجد شاغر وظيفي يناسب تطلعاته، أو حتى يلبي حاجاته الفكرية أو المادية، أو يعطي فرصة لمن درسوا ذات المجال.
قرر هذا الشاب الطموح السفر إلى إحدى دول الخليج، وبعد تفكير طويل توصل إلى قرار السفر إلى دولة الإمارات العربية، فقد كانت هذه الدولة واحدة من مدن أحلامه التي حلم بالسفر إليها، لم يجد صعوبة في الحصول على عمل هناك، فهذه الدولة تعد من أرقى دول العالم الصناعية المتحضرة، والتي يقطنها عدد كبير من ذوي الخبرات من مختلف أرجاء العالم، فهي تهتم بكل نواحي العلم، لذا... لم يكن يبحث أحدهم فيها عن عمل ولا يجده، وهذا ما كان بعصام، فقد كان لتميزه العلمي وقدراته الخارقة، كذلك نشاطه الإبداعي أكبر الأثر في حصوله على عمله في إمارة دبي، والتي تعد من أشهر مدن الوطن العربي، كذلك تميزت هذه الإمارة من بين مدن العالم كلها، وفي دبي صار بإمكان عصام تحقيق أحلامه، فقد حصل على شاغر وظيفي ملأ جزءا كبيرا من شدة غروره، فقد كانت تلك هي الفرصة الذهبية بالنسبة له، لتلبية حاجاته وتحقيق أمنياته، إنه يعمل في مجال اختصاصه، وهذا ما جعله راضيا عن العمل الذي تمكن من الحصول عليه، المهم كان هو أن هذه الوظيفة أرضت غرور الشاب وكبرياءه. كان عصام شابا نشيطا كعادته، لذا... لقي إعجابا شديدا من مرؤوسيه في العمل، فكان يحصل على المكافأة تلو أختها، وعلى التكريم اثر التكريم، لقد كان مهندسا بارعا مبدعا في عمله، فقد كان يختلق المشاريع من لا شيء، وهكذا بهر الكثيرين بهذه القدرات الذكائية، والإبداعات المتميزة، لقد كان حقا فتى متميز...
سؤال غريب كان يطرق أبواب ذاكرة عصام مرارا وتكرارا: " متى سأعود؟ " ، نعم... متى كان سيعود عصام إلى أرضه وأهله، إن فلسطين هي الفضلى في عينيه من بين كل بلدان الدنيا، فهي مسقط رأسه ومنبت عرقه، وفيها كان ريعان شبابه، فهناك في فلسطين شب ونما، وفيها كان بالنسبة له الغنى الحقيقي، رغم كل ما حققه في دولة الإمارات، إنه حقا يريد العودة إلى فلسطين، لقد أبلى بلاء حسنا في عمله في بلاد الغربة، فقد صنع ثروة تكفي لأن يعيش منها أحفاده وليس فقط أبناؤه، إنه يحس الغربة في غير بلاده، وعلى غير ثراها، فهو ليشعر بالوحدة في بلاد الغربة بعيدا عن أهله ووطنه، إنه فعلا لغريب.
بدأ العد التنازلي وقرر عصام العودة إلى فلسطين، قرر العودة إلى وطنه، فبدأ بإعداد حقائب سفره، واشترى تذاكر السفر وجهز كل معاملاته، بعد أن صفى كل حساباته المادية، وأنهى كل أعماله وارتباطاته، وفي صباح تنفس فيه الصعداء، ركب سيارة أقلته إلى مطار دبي. استقل عصام المهندس المبدع الطائرة من الإمارات مودعا إياها إلى مطار الملكة علياء بالأردن، ومن هناك استقل سيارة أجرة إلى جسر الأردن، ذاك الجسر الذي يعد المنفذ الرئيسي والأساسي بين فلسطين وباقي دول العالم. نزل عصام من السيارة، كما أن سائق السيارة ساعده في إنزال حقائبه الكثيرة على الأرض، لقد كانت تلك الحقائب كثيرة، فهو لم ينس أن يتذكر أهله وأقاربه ببعض الهدايا قبل أن يهم بمغادرة دبي، لقد كان يحب أهله كثيرا، وهذا ما جعله يحمل هذا العدد من الحقائب.
على حاجز التفتيش أبرز عصام أوراقه وجواز سفره للجندي المسؤول عن عملية عبور القادمين عبر الحدود إلى فلسطين، أمسك الجندي بأوراق مهندسنا وأخذ يتفحصها، ويدقق بياناتها مع ما هو مسجل على حاسوبه، وبعد وقت ممل قضاه عصام في انتظار إعادة جواز سفره إليه، فوجئ باصطحاب ذاك الجندي له إلى مكتب المسؤول عن الجوازات، ومن هنا بدأت معركة ما أسماه الغربة الإلزامية. جلس عصام في ذاك المكتب على حدود فلسطين ينتظر، فلسطين... ذاك الوطن الذي طالما كان يحلم بلقائه بعد عدة سنوات من الغربة، وفجأة خرج عليه المسؤول وهو يتأتئ بكلمات ركيكة من اللغة العربية، وكأنه كان قد تعلم اللغة منذ وقت قصير، وقال لعصام ودون أي اكتراث، أنه لا يمكن السماح له بالعبور إلى فلسطين.
ما بهذا المغفل؟ إن عصام ابن فلسطين، ولم يمض خارجها أكثر من عشرة أعوام، كيف يمنعه ذاك المتطفل الدخيل إلى أرضه من حق الرجوع إليها؟ لقد كان واقعا مريرا أن يحدث هذا لذاك الشاب، فقد كان رجوعه إلى فلسطين حلما رائعا في حياته. حاول عصام مع المسؤول مرارا أن يوقع الأوراق ويسمح له بعبور الحدود، ودون أن يعطي ذاك المتطفل سببا لمنع عصام من الرجوع إلى بلده، أمره بمغادرة المكان. لم يكن هناك سببا حقيقيا يمنع عصام من العودة إلى بلده، لكن الواقع هو أن سياسة الاحتلال الإسرائيلي تمنع المتميزين من أبناء فلسطين من العودة إليها، وقد كان عصام فلسطينيا شبه مثالي في إبداعاته وإنجازاته، لذا... فقد كان للاحتلال عدد كبير من محاولات قمع أمثال عصام من المبدعين، واختراعهم كل الوسائل لإبعاد هؤلاء عن أرضهم الغالية، كان هذا المهندس من صفوة المبدعين، لذا لم يكن متوقعا من إسرائيل أن تعيده إلى بلده، ويا لهول ما حل بعصام.
تحطم الحلم وتحول كابوسا مريعا، فقد حكم على الشاب الطموح أن يبقى غريبا وأن يعيش على غير ثرى أرضه، والذنب الوحيد في ذلك هو أنه شخص مبدع متميز، لم يفقد الأمل في أنه سيتمكن ذات يوم من العودة، فظل يحاول الرجوع في كل عام، لكن... دون أي تجاوب، فسياسة العدو هي طرد أهل فلسطين منها، وهذا ما كان بذاك المسكين. عاد المهندس إلى دولة الإمارات مرة ثانية، لكن حلمه في تكوين نفسه وصنع ذاته كان قد مضى، ولم يبق في خاطره غير حلم العودة إلى وطنه، هذا ما جعله لا يتذكر غير شيء واحد، كان ذاك الشيء مؤلما جدا، فهو لا يتذكر غير أنه غريب.
www.deyaralnagab.com
|