من الخليل إلى بئر السبع : "صعود الـمئذنة.. ونزولها"!.
بقلم : د.خالد الحروب ... 03.09.2008
بعد أن نمر بـ "دورا" ثم "الظاهرية" لا يكون قد تبقى أمامنا شيء حتى نصل إلى "الـمعبر" أو "النقطة الحدودية" التي تفصل جنوب الضفة الغربية عن بئر السبع والنقب. هكذا كان الصديق الطيب محمد السيد ــ دليلنا ــ يتحدث إلينا بهدوء لا يجاريه سوى هيبة الصمت الـمتربعة على أعالي جبال جنوب الخليل. يسوقنا إلى حيث قريته "حورة" التي تربط شمال النقب بعنب الخليل. على يمينه يصَّاعد غيم وغموض، تنداح خلفهما أمواج أسدود وعسقلان، وعلى يساره يبيضُّ قلب السماء كأن ضفة البحر الـميت أشعت كل ملحها دفعة واحدة.
ما يميز جنوب الضفة الغربية عن وسطها وشمالها قلة الـمستوطنات وصغرها. هؤلاء "الخلايلة" انتشروا في كل الجهات وزرعوا محاريثهم حيث يصل الـمطر وتنام الشمس فلا يبقى للغرباء مساحة للسرقة. في الطريق الطويل تتراءى أشباح الذين قضوا على هذه الرقعة من الأرض في سنوات القرن العشرين الطويلة الدامية.
وراء التلال تلك تقع "السموع" فيتردد صدى رصاص بعيد حيث يُشير محمد. أصوات الـمعركة، أو الـمجزرة، هي ذاتها التي لا تزال ترن، أيضاً، في أذن أحمد حرب وتتسرب إلى نصه الروائي الجديد "الصعود إلى الـمئذنة". محمد السيد من حورة بئر السبع وأحمد حرب من ظاهرية الخليل. ما يفصل بينهما في جغرافيا الأرض رمية محراث تنشط على لحن زغرودة عرس. ما صار يفصل بينهما اليوم حدٌّ قبيح منع التقاء الـمحاريث وأسكت زغاريد الأعراس.
في رحلة "السيد" ونص "حرب" أسماء وتواريخ وأشياء كثيرة، تتشابه وتختلف، لكنها اليوم كلها تزاحمت، اختلطت، وذابت في بعضها، وفينا نحن القادمين من بعيد البعيد لنرى النقب. صار أن قرأت ومن دون سابق ترتيب نص أحمد حرب بعد القيام بالرحلة في أقل من أسبوع. في رحلة سابقة من "وادي فوكين" وعبر القرى الغربية الجنوبية لبيت لحم وصلت إلى قمة "منتجع الكهوف" في "دورا"، حيث يصرُّ الـمصطافون هناك على توجيه كراسيهم لـمواجهة الغرب (الساحل الفلسطيني). ليس بعيداً عن سهول البرج تبدأ سهول الدوايمة وخلفهما يداعب البحر ساحل السحر لهؤلاء جميعاً، وفي أيام صفاء الجو يتمايل الساحل وبحره بعيداً ... قريباً.
كان إن ألـم بنا ملل ما في "حورة" أو "اللقية" أو أي من قرى النقب أو بئر السبع ــ يتابع محمد السيد ــ نتوجه إلى غزة لنسهر على شاطئها حتى ما بعد منتصف الليل. مسافة النصف ساعة كانت أقصر من دندنة طويلة لأغنية لفيروز تغزل بها ما امتد من مدى "سبعاوي" مع أفق "غزاوي" أقرب من قريب. من هنا من بئر السبع تحية إليك أيها السبعاوي الأول حيث كنت: الأستاذ محمد عبد القادر أبو محفوظ، أستاذ اللغة العربية للصف الثاني الابتدائي في مدينة الـمفرق في الأردن في أوائل السبعينيات. هو الذي رسم لنا على اللوح أين تقع بئر السبع في جنوب فلسطين، وهو الذي كان صاخباً ومديداً كصحراء تلك الـمدينة. اليوم تلـميذك أيها الأستاذ الـمبجل يقبل الأرض التي أنجبتك.
في سهول الوديان وسفوح الجبال بين الخليل وبئر السبع تكمن كل أساطير الكون وأقاصيص الأنبياء. هنا كان إخوة يوسف يرعون، وهناك في ذلك السهل بئر "السقطة" حيث سقط يوسف نفسه. هنا مرت قوافل وأنبياء من مصر إلى العراق ومن العراق إلى مصر. من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى الأرض. لكل جد من أجداد هؤلاء البدو الـمنعوفين على هوامش مدن الغرباء الذين قدموا من أوروبا وكل رقاع العالـم قصة تبدأ من الآن وتنتهي مع هبوط آدم إلى الأرض. لا يفصل السرد إلا استراحة راع على صوت ناي، كناي صالح في قرية "العين" في نص "أحمد حرب"، يتكئ على خرير نبع لا تدري أجيال وراء أجيال كيف لـم ينقطع جريانه.
شبه نازلين في طريق طويل مكشوف نقترب الآن من "راهط"، كبرى مدن النقب الفلسطينية الآن، فنراها تمتد في سهل حاضن. لينا صديقتنا العزيزة من الناصرة أحصت سبع مآذن رأتها عن بعد في الـمدينة الصغيرة التي لـم نرَ في طول وعرض شوارعها سبع صبايا فلسطينيات. حزنتْ.
قال أحدنا تفاقمت التقاليد الـمحافظة مع تقاليد التدين الصارم فأنتجت نمط حياة صيّر بعض بلدات فلسطين حكراً على الذكور. تلهفت لرؤية ابتسامة صبية في النقب تقول: باقون هنا، وباسمات نحن. لكن "الأرغيلة" وحدها قاومت تحولات الاجتماع والتقاليد وظلت منتصبة القامة! في قلب الـمدينة كان (صبابا) مقهى جميل يليق باستراحة عابر نقب لا يريد أن يرى إلا ما يريد. ليس هنا طاولات ولا كراس، هنا تقليد لخيمة بدوية كبيرة استلقينا في إحدى زواياها الجميلة على "بُسط" وأرائك حمر وخضر لا تزال بين خيوطها تتبدى أخيلة أيد صلبة غزلتها في أيام طويلة. صافحنا الأيدي تلك وشربنا شاياً منعنعاً وأخذنا "نفس أرغيلة" طويلاً. احتضننا صوت أم كلثوم في ترانيم عشق صوفي خارج من قلب لا يعشق إلا كل ما هو جميل.
صبي أحمد حرب الذي كان حلـمه أن يصعد إلى مئذنة الجامع في قرية "العين" بين الخليل وبئر السبع ما زال يراوده ذلك الحلـم. "الصعود إلى الـمئذنة" صورة متجمدة لنصف قرن كان الغرباء فيه قد أوغلوا في الزمن المستحدث.
بطيء وقت "أحمد حرب" والسذاجة تخنق أصحابه، تحاصر القرى وتشد الحبل على أعناقها قبل أن يحاصرها الغرباء وكيبوتساتهم. الـمحيطون بالـمئذنة من أولاد العمومة وأنصار الشعب يعرفون الـمصير النهائي لـ "العين" و"الدوايمة" و"الظاهرية" و"سعير" و"السموع" وكل القرى الـمجاورة: يجاملون الـمئذنة ويستخدمونها للسكوت والإسكات. ويوم حلت الهزيمة الثانية وانهزمت جيوش العرب وظن أهل القرية أن الزئير القادم هو زمجرة الدبابات العراقية، انخلعت قلوبهم حسرة ومرارة، كما يصف أحمد حرب، لـما جاء الصوت من تلك الـمصفحات بالعربية الـمكسرة وبلهجة عبرية يطلب من الناس الاستسلام ورفع الرايات البيض. كان الـمختار أول من انصاع وصعد إلى الـمئذنة ورفع فوقها شرشفاً أبيض كسيراً. منذ ذلك اليوم توقف زمن الظاهرية النقب، وبدأ زمن آخر. زمن صار فيه أحفاد صنّاع أساطير الكون هامشيين في قرى "غير معترف بها". اخترق الغريب خبزهم وماءهم وبعثر بوصلتهم. ما عاد بعضهم يلتقط لون الشمس في عز الظهيرة.
هناك وبينهم قادنا محمد السيد إلى جنوب بئر السبع وتجمعات البدو الفلسطينيين الذين رفضوا التخلي عن أراضيهم للدولة السارقة فأعلنت عليهم العنصرية. هنا لا ماء ولا كهرباء ولا ما يشي بزمن حديث. بين تجمعاتهم الصفيحية الـمتعبة وثغاء أغنامهم الحزين وبنايات بئر السبع الإسرائيلية الشاهقة مسافة رمقة غضب وحسب. في تلك الـمسافة جبروت الغاصب يوقف زمن الـمُغتصبْ. يعلو زمن الغاصب كما تعلو بناياته الزجاجية، ويبقى الزمن الفلسطيني سجيناً في خيمة بدوية. في قلب الـمدينة القديمة حيث الجامع الـمهجور والـمئذنة الحزينة ليس هناك أولاد يحلـمون بصعودها، ولا هناك الأستاذ أبو محفوظ يلاحق أولاد الـمدرسة كي يدافعوا عنها. قريباً من الجامع الـمنقوع بعفن العنكبوت هناك الـمحكمة الشرعية القديمة التي ما زالت بقاياها تعمل تحت لافتة باللغة العبرية. وبين الجامع والـمحكمة هناك بقايا بيت عريق كبير لـ "أبو مدين" كان يوماً ما بيت عز ووجاهة قدم له وفيه وجهاء من عبروا بلاد الأنبياء تحية القدوم شمالاً وجنوباً. من هنا مر إبراهيم باشا في غزوته الـمشهودة لبلاد الشام. من هنا كان الزمن يبدأ ولا ينتهي. من هنا وفي هنا كان البدو "يعيشون ويموتون كغزلان البراري، ولا يزوجون الذفل لكحيلة"، كما حدث مع "ريحانة". لكن هنا اليوم تتوقف كل الساعات وتبكي كل "الريحانات".
www.deyaralnagab.com
|