ولا الضاليــــــــــــــــن..!
بقلم : المحامي لؤي اسماعيل ... 27.02.2009
إنه الفجر بالكاد يرسل خيوطه الأولى، استيقظ المقدم منصور مذعورا على صوت الزغاريد والطلقات النارية الكثيفة التي دوت كما الرعد الهادر. أيعقل هذا وفي مثل هذا الوقت المبكر جدا ؟؟؟
تعالت الأصوات القادمة من حارة السالم، هرع المقدم منصور من فراشه مذعورا مناديا عناصر الخدمة، لم ينتظر طويلا حتى آتاه الجواب فها هو أبو النمر قد دخل مبنى الناحية وبيده سكينا كبيرة قد اصطبغت بلون الدم ترافقه ثلة مسلحة من الرجال الأقوياء الأشداء، دخل بخيلاء إلى مكتب المقدم بينما انتظر الآخرون بالخارج ووضع السكين على الطاولة أمامه وبدون مقدمات قال: "لقد غسلت عاري، لقد ذبحت الكلبة".
هكذا اختصر أبو النمر وببضعة كلمات قصة حياة إنسانة جرها قلبها إلى حب شاب من آل النزال بادلها هو الآخر الحب نفسه.
المنافسة التقليدية بين العشيرتين قد وقفت بالمرصاد لهذا الحب ومنعته بل وعادته عداء بلا حدود، تلاقت نظراتهما في عرس حامد ابن مختار القرية المجاورة، كانت هذه النظرة كافية لإشعال شرارة حب عاصفة عجز الحقد والكره عن إطفائها.
تهامس أهل القرية سرا: "عبدو النزال مغرم بسوسن السالم". ولكن هذا الهمس لم يتجاوز حدود الهمس لخوف أهل القرية أنفسهم من طرح الفكرة جهارا وليقينهم أن مثل هذا الأمر هو المستحيل نفسه.
كان يوما عصيبا على أبو عبدو زعيم عشيرة النزال وهو يسمع ابنه البكر وأمله بالزعامة ويده اليمنى وعقله الراجح يرجوه أن يطلب له يد سوسن , لم يملك أبو عبدو أعصابه فهوى على ابنه بقربة ماء جشت رأسه وتدفق الدم غزيرا من رأس عبدو لكن دون أن يثنيه ذلك عن متابعة طلبه ولكن وكما قال أبو عبدو: "أن الدم الذي سال من رأس ابنه لن يكون نقطة في بحر الدماء التي ستسيل لو وصل هذا الأمر إلى وجهاء العشيرتين".
حاول عبدو مرار أن يقنع والده أن زواجه سيكون في صالح العشيرتين وأنه سيفض النزاع والصراع بينهما ولكن عبثا فالموت أهون على أبو عبدو من فعل ذلك.
ذات صباح لن ينساه أحد استفاقت القرية على خبر كان بمثابة إعلان الحرب: "لقد هرب عبدو وسوسن" واستنفرت الأسلحة ودوى إطلاق النار العشوائي بكل الاتجاهات وتشابكت الأيدي وغرزت السكاكين في النحور وأضرمت النار بالمحاصيل ونحرت الحيوانات، يومها تدخل وجهاء العشائر الأخرى وكبار رجال الدين ورجالات الدولة لوقف المجزرة، وكانت العيون ترمق أبو عبدو بنظرات الملامة وتحمله المسؤولية فما فعله عبدو كان بمثابة الخرق لكل الأعراف والقيم وهو يخرج عن حدود الصراع بين العشيرتين المتنافستين ليصيب بعاره كل المنطقة!
يومها أقسم أبو عبدو يمين عظيم أمام الوجهاء أنه لا يد له في كل ما حصل ولم يكن يعلم بما توجس به نفس أبنه.
هدأت الفتنة لكنها لم تمت بل انتظرت طويلا حتى أزفت بقرونها، ومضت مدة طويلة حتى علم آل النزّال بمكان تواجد ابنهم ولكن اقتصر ذلك على حدود ضيقة جدا لم تتجاوز أبو عبدو وزوجته وأخوه راشد المرشح لخلافة والده بزعامة العشيرة بعد ان فقد عبدو مكانه.
ثمة من اقل أن عبدو قصد بلدا مجاورا وتزوج سوسن هناك على سنة الله ورسوله وأنجب منها أولاد ولكن لم يكن أحد ليجرؤ على تحديد مكان إقامته خوفا من الوصل إليه.
رغم كل المحاولات التي بذلت لتحقيق المصالحة بين العشيرتين على اعتبار أن المصاهرة قد وقعت إلا ان جميع الجهود باءت بالفشل وما ظنه عبدو سببا لتحقيق المصالحة أصبح ذريعة للحرب التي لن تهدأ أبدا.
إثنتا عشرة سنة مرت ثقيلة لكنها لم تستطع أن تمح ما حدث من الذاكرة فهو سرعان ما يطل برأسه عند أول إشكال أو حساسية بين العشيرتين المتناحرتين حتى كان ذلك اليوم الذي أعاد خلط الأوراق جميعها من جديد، انتشر الخبر انتشار النار في الهشيم، لقد توفي عبدو النزال بعد صراع مع مرض عضال أتى عليه في فترة زمنية قصيرة تاركا وراءه زوجته وصبيين صغيرين، مات عبدو النزال بعيدا عن أهله وأرضه موت الغرباء، كان وقع الخبر ثقيلا جدا على أبو عبدو وعشيرة النزال بأسرها بل وعلى عشيرة السالم لأنها لم تقتص منه بل خطفه الموت بعيدا عن أسلحتهم التي كانت تنتظره عند أول لقاء، وأصبح الأمر يدور الآن عن ترتيبات الدفن فأبو عبدو أقسم يمين عظيم أن ابنه لن يدفن إلا في مدافن العائلة حتى لو وصل الدم إلى "الركب" بينما اشرأبت أعناق آل السالم لاستقبال الجنازة بالأسلحة والعصي ووصل الأمر إلى حدود الكارثة بعد تبادل إطلاق النار بين بعض الأفراد حال تدخل وجهاء العشائر الأخرى وقوات الشرطة التي استحضرت على عجل من تطورها، ثم استطاعت الجهود المبذولة من عدة جهات إلى التوصل لصيغة تحد من تفاعل الأمر وتلبي في الوقت نفسه مطلب الطرفين، وهكذا تم الاتفاق على السماح بدفن عبدو بمدافن العائلة بجنازة بسيطة دون حوادث على ان يتم العزاء في المقبرة وقت الدفن فقط أما سوسن فتمنع من الخروج من منزل أبو عبدو مطلقا مقابل ضمان سلامة الأولاد.
كان هذا الاتفاق بمثابة أفضل الممكن لحقن الدماء بين الفريقين وعليه تمت الجنازة بهدوء بعد احترام الفريقين لبنود الاتفاق بينهما، أما حال سوسن فلقد كان عصيا على الوصف فهي إما باكية أو نادبة،لا يرق لها جفن ولا تغمض لها عين إلا على البكاء والعويل.
شهران مضيا على دفن زوجها وقلب سوسن يتحرق شوقا لزيارة قبر زوجها وقراءة الفاتحة على روحه وربما لمعاتبته على تركها وحيدة في هذا السجن الكئيب، وهكذا أسرّت سوسن في نفسها التسلل ليلا لزيارة قبر زوجها بعد أن خفتّ إجراءات الحراسة عليها، ولم تلبث ان نفذت ما عزمت عليه ففي الهزيع الأخير من هذه الليلة غافلت سوسن أعين الحراس وتسترت بالظلمة وتسللت باتجاه المقبرة وهي تتوجس خيفة أن يراها أحد "لن يستغرق الأمر سوى عدة دقائق، سأقرأ الفاتحة وأعود" هكذا حدثت نفسها وهي تحث الخطى باتجاه حتفها، فهي إن استطاعت مغافلة حراسها لكنها لم تستطع مغافلة أعين آل السالم التي كانت تترصد المكان وتنتظر تلك اللحظة على أحر من الجمر، دخلت المقبرة وأسرعت باتجاه قبر عبدو والدموع تسبقها إليه وما أن وقفت أماه حتى أطبقت على أنفاسها يد غادرة مانعة إياها من الحركة والصراخ وكانت أخر كلماتها التي ترددت بمسامع أبو النمر تلاوتها "ولا الضالين.. آمين".
المصدر : موقع نساء سوريه
www.deyaralnagab.com
|