حليب في الرمال !
بقلم : رشاد أبوشاور ... 26.6.08
الحليب المتدفّق من أضرعة قطعان الأبقار، والجاموس، في السودان، والغائر في الرمال، والأراضي البعيدة عن المدنيّة، وعمّن هم بأمسّ الحاجة له، يشكّل بركا بيضاء في تلك المناطق النائيّة التي لا خدمات فيها، ولا عناية بثروة حيوانيّة تكفي الوطن العربي كلّه، وتفيض، لو أحسن استثمارها.
قطعان تغرق في الغبار، ورعاة هائمون، ومسافات تقطع للوصول إلي أسواق (أم درمان) للتخلّص من فائض تلك القطعان وبأرخص الأسعار.
التقرير الذي شاهده ملايين العرب علي فضائية الجزيرة، أضاف لهم حسرات وألما، فهم يتفرجون علي ثروات يمكن أن تسّد جوعهم، خاصة والمجاعة تتهدد بعض بلدانهم، وهم يرتجفون أمام غلاء الأسعار، وذّل الحاجة، والتحسّب من الآتي القريب، وهو أفدح خطرا.
ملايين الأبقار، والجاموس، تهيم في مساحات السودان الشاسعة، ولا تجد من يحلبها، أو ينتفع بجلودها، وعظامها، وبقاياها، والتي يمكن أن تزوّد كل بلاد العرب باللحوم، والملابس الجلديّة، والأجبان والألبان، والأسمدة، ولكن.!
ولكن السودان عاجز وحده عن إنشاء بنية تحتيّة، والنهوض بخطّة زراعيّة صناعيّة تحتاج مليارات الدولارات، لتعود بالنفع علي ملايين العرب، وتضمن لهم أمنا غذائيّا قوميّا.
دول الثراء النفطي الفاحش تتسابق في إنشاء ناطحات سحاب، في بلاد هي رمال مجدبة، قليلة عدد السكّان، وتغرق في وهم التنافس مع (هونغ كونغ) التي انضمت إلي أّمها (الصين)، مع إنها يمكن أن تجني ثروات هائلة من استثمار ملياراتها في الزراعة، وتطوير الثروة الحيوانيّة في السودان.
ناطحات سحاب ترتفع علي رمال مبددة فرصة (ثورة) أسعار النفط (الثانيّة)، التي يبدو أنها لن تكون أحسن حالاً من (الثورة) الأولي التي أعقبت حرب تشرين 73، فلا تخطيط، ولا صناعات مثمرة دائمة، ولكن (زراعة) مدن خدمات في الصحاري العربيّة، لا هويّة لها، ولا انتماء، وكّل ما تعد به (نكبة) جديدة للعرب، لأن ( العمالة) الوافدة ستغيّر هويّة بلدان الخليج، وملامحها، وانتماءها.
هل تابعتم حلقة (بلا حدود) يوم الأربعاء 18 حزيران الجاري مع الدكتور علي فخرو، الذي لا يمّل من التحذير من (نكبة) عربيّة جديدة في الخليج، قد تفوق نكبة العرب في فلسطين؟!
رؤوس الأموال العربيّة التي بادرت و..غامرت ، في العمل في السودان ما زالت في حدود 400 مليون دولار، بحسب جهات رسميّة سودانيّة، تمّ استعادتها في أقّل من ثلاث سنوات، وهذا يعني أن السوق السودانيّة مضمونة الربح، رغم كّل ما يحيط بالسودان من مؤامرات تتهدّد وحدته.
أغلب بلاد العرب تحتاج لاستيراد اللحوم، وهي تعتمد في سّد حاجتها علي بلدان بعيدة، من الأرجنتين إلي بلاد لم نسمع بها، واللحوم مبرّدة، وأحيانا منتهية مدّة الصلاحيّة ـ هذه تستورد للبلاد العربيّة الفقيرة! ـ ولكن فقراء العرب يأكلونها غير آبهين لما تخلّفه في أبدانهم من أمراض (مستوطنة).
الحليب يضيع في رمال السودان بينما نحن ندفع ثمن نصف كيلو اللبنة قرابة دولارين، وعلبة اللبن زنة كيلو دولارا ونصف، ويحرم أطفالنا من الحليب، بعد أن صار ثمن علبة الحليب الجّاف زنة كيلو غرام قرابة الخمسة عشر دولارا!
حليب قطعان السودان بحسب التقرير الذي شاهده ملايين العرب، يسيل علي رمال الصحراء، ويشكّل بركا بيضاء تتعفّن تحت الشمس، وتتسبب بمشاكل بيئيّة، فالأرض تحيا وتخصب بالماء، لا بالحليب!
أية أمّة هذه التي تستورد ما تحتاج من وراء البحار، بينما كّل ما تحتاجه متوفر عندها، وتحت يدها، و..لكن أثرياءها، وسماسرتها، يبددون ثرواتها، ويرتهنون حاضرها ومستقبلها لقوي ستركعّ أجيالها برغيف الخبز.
ثروة أهم وأبقي من النفط، تعزّز استقلال الأمّة، وتمكنها من السير برأس مرفوعة، فلا تزحف علي بطنها من أجل الرغيف، ومع ذلك تهمل، ولا يفكّر أثرياؤها، أثرياء الصدفة، بتوظيف بعض المليارات التي تعود عليهم بالربح الوفير.. أهذا صدفة؟!
أسماك تدفن في التراب!
في المغرب، وفي تقرير آخر، شاهد ملايين العرب شاحنات محمّلة بالأسماك، نقلت لتدفن في حفر هائلة، بدلاً من أن تتلذّذ بها أفواه جائعة!
نسمع بين وقت وآخر عن كّب آلاف أطنان القهوة في المحيط، حفاظا علي أسعارها، فالعرض عندما يقّل يزداد الطلب، وهذا ما يحافظ علي مستوي الأسعار، بل يزيدها اشتعالاً.
ولكن لماذا تدفن أطنان الأسماك في حين هناك جياع في المغرب و..المشرق، يتمنون الحصول علي (سردينة) مع رغيفهم (الحاف)؟!
غزارة في الإنتاج ، وسوء في التوزيع، سوء غير بريء.
لا فقوّس في العام القادم!
إذا كانت قطعان الماشية في السودان لا تجد من يحلبها، والأسماك في المغرب تدفن في الأرض بدلاً من أن تذهب إلي البطون الجائعة، وأسماك المحيط تنهبها (الجرّافات) اليابانيّة في الساحل الموريتاني، فإن الأرض الخصبة الصالحة للزراعة تموت اغتيالاً في بعض الأقطار العربيّة!
لما سكنت في منطقة (طبربور)، بعد غياب عشرين سنةً عن العاصمة الأردنيّة عمّان، أدهشتني خصوبة الأرض، و..أن أصحابها يبيعونها، لتتحوّل إلي مبان إسمنتية وحجريّة تقتلها نهائيّا، متخلين عن الزراعة التي عاشت عليها أجيال وأجيال!
الأردن بلد شبه صحراوي، وأرضه الصالحة للزراعة يدمّرها هجوم البناء، والذي هو خراب يفقد هذا البلد ما (لديه) من أراض قليلة صالحة للزراعة.
حقول القمح انحسرت مع زحف الإسمنت، ومقاثي الفقّوس، والبندورة، والخيار، والبطيخ، والبامياء و...تندثر، وتصبح أثرا بعد عين!
الآن نحن في موسم الفقوس، والمرأة التي تحضر كل عام مع أولادها، وتضمن قطعة، تزرعها فقوسا بلديا لذيذا ـ بعض الفقوس مّر كعيشة أم هايل وأولادها وبناتها ـ رفعت هذا العام سعر كيلو الفقوس إلي دينار بالتمام والكمال، يعني دولار ونصف..كأننا في لندن ولسنا في (طبربور)!
سألتها : لماذا يا أم هايل ترفعين الأسعار. ما علاقة الفقوس بالكاز، والبنزين و..الزفت العربي؟!
لوت رأسها، وتأملتني قليلاً، ثمّ أجابتني وهي تضرب كفا بكّف :
ـ يا أستاذ.. كلوا فقوس السنة قد ما تقدروا، أكلة والوداع، وما تسألوا أم هايل عن السعر. السنّة الجاية ما فيش فقّوس!
ـ لماذا يا أم هايل كفا الله الشّر؟ نحن لم يبق لنا سوي الفقوس نفطر عليه مع رغيف خبز سخن، وقطعة جبن مختصرة يتراجع حجمها عاما بعد عام، وكباية الشاي. تريدين حرماننا من الفقوس يا أم هايل، أما يكفينا أننا صرنا نشتهي البندورة البلديّة؟
أم هايل أجابتني بحسرة:
ـ يا أستاذ...أصحاب الأرض يريدون بناء بنايات عليها، وهم أبلغوني أن هذه آخر سنة يضمنونني فيها الأرض!
في بلاد العرب: أموال النفط ستتبدد علي (ناطحات) وهم، أو تجمّد أرقاما ميتةً في بنوك أمريكا وأوربة، بينما الحليب يضيع في الرمال، والأبقار هائمة بعيدا عن محتاجيها!
الأرض (تزرع) بالإسمنت والحجارة...
لا أمن قومي زراعي، ولا تكامل اقتصادي...
بلاد تندفع إلي المجاعة والعنف المدمّر.
أثرياء منبّتون، وحكومات لا تفكّر، ولا تخطط...
أبقار السودان لا تجد من يحلبها، ونحن تحلبنا حكومات تتركنا جوعي، ومرضي، تائهين هائمين في بلاد صحّرتها عن غباء، أو عمد.. لافرق!
www.deyaralnagab.com
|