القضية ليست لغوية !
بقلم : نقولا ناصر* ... 28.03.2009
في مقابلة له مؤخرا مع صحيفة لاريبوبليكا الإيطالية قال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" ، خالد مشعل ، إن الرئيس الأميركي باراك أوباما يتحدث ب"لغة جديدة" تجاه الوطن العربي ومحيطه الشرق أوسطي ، لكن "التحدي" ، كما أضاف ، يكمن في أن تكون هذه اللغة الجديدة "مقدمة لتغيير حقيقي في سياسات الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي".
ومشعل من موقعه القيادي ربما يطل على ما لا يراه المواطن الفلسطيني في القاعدة الذي لا يرى حتى الآن أي جديد في لغة الإدارة الأميركية الجديدة طالما هي تبني على قديم سابقتها في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال والمنطقة بعامة . لكن هذه قضية أخرى . فقد أثار "أبو الوليد" في حديثه للصحيفة الإيطالية قضية "اللغة" ، ليحفزنا إلى مراجعة اللغة التي بات المفاوض الفلسطيني يتحدث بها منذ جنحت قيادته ، طائعة أو مكرهة ، إلى السلام ، وهي لغة ما زالت الفجوة تتسع بينها وبين اللغة الأصلية للقضية الفلسطينية حتى لم يعد المواطن العادي يجد قاسما مشتركا بين لغته الوطنية وبين لغة المفاوضين باسمه.
وكان آخر مثال صارخ على التناقض بين اللغة الرسمية الفلسطينية السائدة وبين الممارسة السياسية الفعلية إعفاء واحد من أكفأ وأعرق الدبلوماسيين الفلسطينيين من منصبه كسفير في موسكو ، وهو الفتحاوي المخضرم ابن القدس عفيف صافية ، السفير الفلسطيني السابق في واشنطن والأسبق في لندن والفاتيكان ، لأنه شارك في مهرجان نظمته حركة حماس لم يكن له علاقة بالانقسام الفلسطيني وكان موجها لجمهور أجنبي لتعريفه بجرائم الاحتلال أثناء العدوان الأخير على قطاع غزة ، بينما قيادته تصرح ليل نهار بحرصها على إنجاح حوار القاهرة من أجل تحقيق وحدة الصف الفلسطيني!
وربما يظهر التناقض بين اللغتين الوطنية والتفاوضية جليا في كلمة "التحرير" الواردة في اسم المنظمة المعترف بها الممثل الشرعي والوحيد لعرب فلسطين وفي أسماء معظم الفصائل الأعضاء فيها ، وهي كلمة تتواضع أمام معناها كلمات "المقاومة" أو "الجهاد" الواردة في أسماء القوى الوطنية غير الأعضاء فيها ، لكن شتان بين هذا "التحرير" وبين النهج التفاوضي وما تمخض عنه حتى الآن من ترسيخ للاحتلال واستعماره الاستيطاني المستشري كالسرطان.
ومنذ بدأ التفاوض سريا قبل أن يتحول علنيا ورسميا أدرك المفاوض بأن عليه أن يتعلم لغة جديدة يفهمها "العالم" والاحتلال ، فاضطر بوعي أو دون وعي لممارسة الخداع اللغوي لكي يغطي على الانقلاب على استراتيجية "التحرير والعودة" التي منحه شعبه تفويضا بتمثيله على أساسها ، لذلك اختار التعميم لكي يغطي على "الشيطان الذي يكمن في التفاصيل" ، عندما قرر هذا المفاوض القبول بقراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 ورقم 338 فقدمهما لشعبه باعتبارهما "ال" شرعية الدولية التي ينخرط في "عملية سلام" على أساسهما ، متجاهلا عشرات قرارات الشرعية الدولية الأخرى التي ما زالت حبرا على ورق ، من أجل مبادلة "ال"أرض بالسلام ، مغيبا واقع عدم وجود أل التعريف في النص أصلا.
وعندما أدرك الشعب بأن هذه المبادلة كانت لغوية فحسب وبأن "الأرض" لا تعني كل الأرض بل خمسها وبأن السلام "الشامل" هو شامل فقط لدولة الاحتلال ولا يشمل ، إذا ما قدر له أن يتحقق على هذا الأساس ، إلا ذلك الجزء الأقل من الشعب الخاضع لاحتلال عام 1967 ، قاد الانقسام الفلسطيني الناجم عن ذلك إلى تأخير نجاح المفاوض في القبول رسميا بالقرارين أكثر من عشرين عاما ، بينما قبلت دولة الاحتلال بهما فورا ، لأنهما لم ينصا على إقامة دولة فلسطينية ، ولا على عودة اللاجئين الفلسطينيين ، ولا على انسحاب قوات الاحتلال إلى حدود الرابع من حزيران عام 1967 ، ولأنهما فوضا دولة الاحتلال ب"إدارة" الأرض الفلسطينية المحتلة في ذلك العام حتى يصنع الجيران العرب السلام معها قبل أن تسحب قواتها منها إلى "حدود آمنة ومعترف بها".
واستمر الخداع اللغوي بعد "إعلان وثيقة الاستقلال" الفلسطيني في الجزائر عام 1988 ، فقد أغرق المفاوض الشعب في "فرحة" إعلان الاستقلال لتغرق معه حقيقة أن هذه الوثيقة كانت في الوقت نفسه هي وثيقة الاعتراف بدولة المشروع الصهيوني على ثمانين في المائة من فلسطين التاريخية ، في انقلاب استراتيجي على استراتيجية منظمة التحرير ، التي لم يكن أمرا غير متوقع تهميشها منذ ذلك الحين.
وكانت الزفة اللغوية التي أعقبت ذلك تاريخية حقا احتفالا بمولود لم ير النور بعد ، لكن أكثر من 105 دولة اعترفت بذلك الاستقلال وفتحت أكثر من سيعين "سفارة" فلسطينية في تلك الدول ، وأعقب ذلك اعتراف أميركي بمنظمة التحرير قاد إلى اعتراف دولة الاحتلال الإسرائيلي بها وبدء التفاوض معها ، ليتحول هذا الاعتراف الأميركي الإسرائيلي بحكم الأمر الواقع في الوقت الحاضر إلى المرجعية الوحيدة للاعتراف بشرعية المفاوض الفلسطيني ، الذي اعتمد "حل الدولتين" باعتباره "المشروع الوطني" الفلسطيني الذي يجري تحت غطاء خداعه اللغوي تدمير الأسس المادية لأي مشروع وطني حقا حتى في الحدود الدنيا ، مثل "إقامة سلطة وطنية" على أي "جزء يتحرر" من أرض الوطن ، لتجد الحركة الوطنية الفلسطينية وقيادة المنظمة نفسيهما بدلا من ذلك في أسر سلطة حكم ذاتي ، تحت الاحتلال المباشر ، كان من المفترض أن تكون بديلا للإدارة المدنية للحاكم العسكري للاحتلال لكنها تستمر في موازاتها ، بل في ظلها ، ولا يمكن لها أن تستمر دون "التنسيق" معها.
إن الجدل "اللغوي" الساخن -- الذي لم يتم حسمه بعد في الجولة الأولى للحوار "اللغوي" الفصائلي التي انتهت في التاسع عشر من الشهر الجاري في القاهرة -- حول "احترام" أي حكومة توافق وطني فلسطينية للاتفاقيات الموقعة بين قيادة المنظمة وبين دولة الاحتلال أو "التزامها" بها هو مثال آخر على طغيان لغة التفاوض على جوهر القضية نفسها ، فالمواطن الذي ما زال لا يفهم إلا لغة القرآن ما زال لا يفهم أيضا هذا الجدل البيزنطي حول احترام تلك الاتفاقيات أو الالتزام بها ، وكان يتوقع من قياداته حوارا أجدى حول جدوى تلك الاتفاقيات وجدوى استمرار احترام أي قيادة فلسطينية لها بعد أن سحقتها دبابات الاحتلال وطائراته وبوارجه الحربية مرتين خلال ست سنوات منذ "عملية الدرع الواقي" عام 2002 وانتهاء ب"عملية الرصاص المصهور" الأخيرة وبينما جرافات الاستعمار الاستيطاني تستمر في تدمير الأسس التي قامت عليها عملية التفاوض.
ويدور هذا الجدل البيزنطي في إطار شعار لغوي خادع آخر هو"الوحدة الوطنية" ، فالوحدة المطلوب من حوار القاهرة إنجازها بين الفصائل وحدة تكتيكية تريدها فصائل المفاوضة من أجل استئناف المفاوضات فقط ، لأن الاحتلال يتذرع بالانقسام الفلسطيني حتى يتنصل من عملية التفاوض بحجة عدم وجود شريك فلسطيني واحد يمثل "كل" شعبه ولأن الراعي الأميركي لعملية التفاوض وممولها الأوروبي يريان في الانقسام عقبة تعيق المفاوضات ، وهي وحدة تكتيكية تريدها فصائل المقاومة لدعم مشروعها وإعادة النظر في عملية التفاوض الجارية منذ عقدين من الزمن وفي مرجعياتها وأهدافها.
لكن البند الوحيد على جدول أعمال أي حوار وطني غير تكتيكي ينبغي أن يكون استعادة الوحدة الاستراتيجية للشعب والوطن ، بعد أن قادت برامج "الواقعية" السياسية "المرحلية" والاتفاقيات الموقعة "الانتقالية" و"المؤقتة" المنبثقة عنها إلى البناء على اختزال الوطن في خمسه المحتل عام 1967 وإلى تقسيم الشعب على هذا الأساس إلى "ثلث" يقيم تحت هذا الاحتلال يحق للمثل الشرعي والوحيد الفلسطيني أن يمثله ويتفاوض باسمه ، و"ثمن" هو "مواطن" في دولة الاحتلال الإسرائيلي لا يحق لمنظمة التحرير تمثيله أو التفاوض دفاعا عنه ، و"ثلثان" في المنافي والمهاجر القسرية وافق المفاوض على "تأجيل" البت في مصيرهم إلى التفاوض على "الوضع النهائي" بموجب الاتفاقيات المؤقتة التي تمتد آجالها وتمدد بهذه الذريعة أو تلك حتى بات الوضع "المؤقت" المنبثق عنها وضعا دائما في الأرض المحتلة عام 1967 يبدو أن ديمومته ستطول مثل ديمومة الوضع المؤقت لدولة الاحتلال منذ عام 1948 ، التي وقع المفاوض الفلسطيني في فخ الاعتراف بها وهي ما زالت دون دستور يرسم حدودها.
ورفع شعار القدس عاصمة للدولة الفلسطينية المأمولة في إطار "المشروع الوطني" لحل الدولتين يندرج بدوره في سلسلة الشعارات اللغوية التي يضيع مضمون ما تعنيه على وجه التحديد في غموض التعميم الذي تطرح فيه ، والوضوح الوحيد في رفع هذا الشعار يظهر في "تبرع" المفاوض الفلسطيني المسيق بالشطر الغربي من "القدس الشريف" للاحتلال الذي ما زال مفاوضه يرفض حتى الآن مقابلة كرم نظيره الفلسطيني بالمثل في شطر المدينة المقدسة الشرقي ، كما يظهر الوضوح في تطوع المفاوض الفلسطيني ، دون أي تفويض من أي مؤسسة وطنية ممثلة لشعبه ، للقبول بشطرها الشرقي مطلبا له ، بينما كل القدس محتلة وجميعها ، بغربها وشرقها ، ينبغي أن تكون قضية من قضايا التفاوض على الوضع النهائي . ورحم الله فيصل الحسيني الذي وثق في بيت الشرق ملكية المقدسيين العرب لخمسة وسبعين في المائة من الملكية في القدس الغربية ، ورحم الله المفاوض الفلسطيني من ردود فعل ورثة هذه الأملاك.
إن القضية الوطنية الفلسطينية هي قضية إنسان عربي من لحم ودم ، وقضية أرض وثقافة ومعتقد ، وقضية تاريخ وحاضر ومستقبل ، لكنها كما يبدو قد تحولت إلى قضية لغوية ، استبدل فيها صراع الوجود على الأرض ب"اشتباك تفاوضي" لغوي على الورق يجهد المفاوض الفلسطيني فيه من أجل إتقان لغة يفهمها الاحتلال وشركاؤه وحماته ويجهد كذلك من أجل تعريبها دون طائل حتى الآن ، لأنها ، بالعربي الفصيح ، بدأت غير مفهومة وطنيا ، وما زالت.
*كاتب عربي من فلسطين
www.deyaralnagab.com
|