logo
استيحاء تاريخ النقب من خلال الأدب,وجذور هذا الأدب الجاهليّة.. [ الجزء الاول] !!

بقلم : زهير ابن عيّاد ... 16.03.2009

[دراسات مساهمة في التاريخ والأدب]
بودّي وبتواضع أن أطرح عليكم نظريتي الخاصة تجاه تاريخ أهل النقب, بتتبع لبعض شوارد الأدب الدالّة على نوع التاريخ الاجتماعي.
*مقدمة ومدخل:
أنه وفي تطوّر المنهجيات الواضحة في الدراسات الشعبية وتعامل تلك الدراسات بشمولية مع الآداب الشفاهية, أصبح لزاماً علينا كأبناء شعب أصلاني يتواتر أدبه شفاهياً من جيل لجيل, تدوين هذا الأدب والبحث عن مفاهيم العلاقة والفروق والجذور القائمة فيه خاصة أنه أدب يعتمد على الذاكرة وما يطلق عليه البدو "السواليف" تلك التي أحدثت تحولات في طبيعة الأدب وسياقاته الإبداعية لارتكاز أهل اللغة عليها في النهل من مصطلحاتها ومفرداتها كونها بدائية إلى حدّ ما تترجم الوظائف الاجتماعية القديمة لأهلها. أنه لغزارة وتنوّع النتاج الأدبي للبدو عموماً سواء كان ذلك من أشعار أو أمثال أو قصص, تشكّل لنا مصدر تاريخي ووثائق اثنوغرافية تُعَدّ خلفية تاريخية تعكس لنا جوانب المعيشة المتعددّة في مجتمعهم هذا بعض إخضاعه لتحاليل منهجية في اللغة والأدب والتاريخ وتحاليل اجتماعية نفسيّة واكتشاف ما به من ذخائر تُعد ذات أبعاد فنيّة وجماليّة تحمل وظائف أيدلوجية واجتماعية وسياسية تُعد قوة فاعلة في أي مجتمع تقليدي.
أنه لا بُدّ لمن يحاول كشف أسرار التاريخ الجأهلي القديم اليوم من جولات ميدانيّة في بيئة تتشابه إلى حد بعيد مع البيئة الجاهليّة أعني البادية. فان تشابه المناخ في الموروث الشعبي من سلوك وطباع وثقافة والمحيط الاجتماعي ما هي إلاّ من أساسيات الحياة الجاهليّة عل سبيل المثال قصص الصحراء بكيفيّتها ونوعيّتها التي زالت تتداور بين شيبان بادية النقب لو تمكنا من دراستها كصورة حيّة عن الأدب والتاريخ الجأهلي لاستطعنا اكتشاف العديد من المسائل الحيويّة في تواتر الأدب الشفاهي وكيفيّة تداوله وحفظه وروايته كقصص تراثية تقليدية حملت وظائف اجتماعية ولعبت ادوار سياسية قديماً.
أن أدب الشعوب التقليدية بمفهومه العام ليس بوليد لحظة أو فترة زمنيّة قصيرة, وربّما لا يأتي عن قصد وهدف, بل هو تحصيل حاصل لتراكمات عديدة تمخّض عنها نتيجة الظروف السائدة بكلّ جوانبها سواء السياسية منها أو الاجتماعية والاقتصادية. وقد أتى هذا الأدب كتجسيد لثلاثي الإنسان والمكان والزمان وردّات فعله تجاه هذه الأمور.وهو ليس بالضرورة صادراً عن شخص مثقف أكاديمي يكتب مقالات هنا وهناك أو مختص ما يحاول إيصال فكرته بقدر ما تشكيل لظاهرة اجتماعية يشترك فيها الجميع صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً ليشكلوا فيما بعد أدبهم وثقافتهم الخاصة المميزة التي أتَتْ بالطبع كترجمة لأساليبهم وعاداتهم في الحيات, هذا الأدب الذي استعمل كأداة مساهمة بشكل فعّال في استنباط تاريخ ذلك الشعب وكما هو الحال في دراستي هذه التي حاولت جاهداً استخراج بعض مكونات تاريخ البدو في النقب ولو كسطور عريضة لا شكّ أنها ستساعد في اكتشاف تاريخنا المغيّب قصداً أو سهواً هذا الأدب الذي يكونه بتفاصيله اليومية الوجهاء والقضاة والشيوخ وذربي اللسان والنساء هذا الأدب الذي يعكس لنا التاريخ الاجتماعي القديم للبدو ويصلنا بأخبار حياتهم يتجسّد في لحظات يومية وطقوس غاية في البساطة يحملها البدو دون وعي على الرغم من تكرارها من قُبيل لغتهم وأحاديثهم العادية وأعمالهم اليومية وسواليفهم العادية.
أن أدب النقب الحالي هو نتاج مفعم بالتطورات الآتية كنتيجة لمعاصرته لثلاثة أجيال وهي:
- جيل البداوة الأوّل الذين عاشوا حياة الظعن والحل, ومما يحمله هذا الجيل من أدب تراثي فلكلوري ما زلنا نسمع صداه على السنة شيبان النقب من خلال محادثاتهم وسردهم التاريخي والمعيشي لذاك الزمان.
- جيل ما بعد دخول إسرائيل تحديداً في سنوات الستين والسبعين من القرن العشرين وما حدث من توطين البدو وجلب أُسُس الحضارة لهم من مساكن ثابتة وشق شوارع واقتناء السيارات وما يصاحب ذلك من هجر لوسائل النقل التقليدية عند البدو كالخيل والبل, هذا التوطين الذي احدث قفزات هائلة في الأدب البدوي بما يحمله من معتقدات فقد كانوا يعتبرون العمل بالبناء والزراعة أمراً معيباً ويأنفون منه نراهم تدريجيّاً ينخرطون في الأعمال العمرانيّة ويتحوّلوا عن أفكارهم القديمة. في هذا الجيل ترنّح الأدب المقصود ما بين الحضارة والبداوة. إلاّ أن وتيرته القوية ما زالت متماسكة وذلك لعدم بُعد الزمن وطول المسافة.
- الجيل المعاصر وما شهده من تحوّلات اجتماعية على كافة الأصعدة وهنا أصبح أدب البداوة القديم "شوارد" نلتقطها من هنا وهناك بجُهد جهيد خاصة في القرى غير المعترف بها إذ ما زلنا نجد بها صداه للحياة البدوية القديمة من تكافل اجتماعي وروح تقليدية.
أن عيب الأدب الاجتماعي هو عدم مناعته المتناهية تجاه ثقافات أُخرى, الأمر الذي نلحظه عند بدو النقب في الزمن المعاصر إذ حصلت بعد الثغرات في هذا الأدب, أزاحت بذلك الحسّ المعنويّ القديم لأدب بدو النقب إذ فقدت المفردة الشعبية رونقها الخاص بحضور الأدب العبري الذي لم يستطع مع ما وصل إليهِ من تسرب مفردات عديدة للغة العربية البدوية أن يطمس ويقضي على شواهد الماضي وروح الانتماء للعربية, بحيث ما زلنا نشاهد الأسماء العربية للقبائل وانتسابها القديم, بالإضافة إلى اللغة المحكيّة القريبة إلى حدّ بعيد من لهجة نجد وتهامة والحجاز منابع العرب الأُولى, كما وتفيد الروايات القديمة بان القبائل كانت تسمّى بابن فلان وبالتالي بني فلان, الأمر الذي ما زلنا نلاحظ صداه حتى الآن لدى العديد من العائلات في النقب, كقولهم ابن عيّاد, ابن بري, ابن سلامه... وبالعودة إلى الموروث الشفهي ون حكايات وأشعار نجد أن هذا التعبير يطغى على باقي التعابير فبالكاد نجد تعبير أبو فلان أو بو فلان أو ال فلان, وفي اتجاه آخر نلحظ كثرة استعمال ياء النسب وهي مشددة مكسور ما قبلها كقولهم ترباني, عزامي, حنجوري... كذلك استعمالهم لصيغة معيّنة شاملة من قُبيل قولهم عرب أبو فلان – قوم أبو فلان... من هذه المنطلقات نستشف ذلك الرابط القويّ بين عرب النقب وعرب الحجاز والجزيرة على الاقل في القرون السادسة عشرة إلى الثامنة عشرة, قبل هجرة قبائل يمنيّة قحطانيّة وعراقيّة إلى النقب بحيث أصبحنا نلحظ تطوّر ما في اللهجة وتعابير الانتماء لنصل اليوم إلى درجة تقليد لثقافة الانتماء العراقيّة واليمنيّة على وجه التحديد وتقليد لثقافة الانتماء لبلدان الهلال الخصيب بشكل متسع, ولا يخفى عليكم ما يملكه الهلال الخصيب من أعراق عديدة وبالتالي ثقافات متنوّعة.
ثمّة واقع يمكن استنتاجه من التجربة طويلة المدى لأدب البداوة يقول بان هذا الأدب لا يتأثر بتلك السهولة وانه عصي على التطوّر ومنغلق تجاه ثقافات أُخرى, وطالما حاول ابنها الهروب منها والإستغناء عن لغة الصحراء وأدبها بأساليب وتعابير جديدة, تجبره هذه الصحراء بالعودة لها لأنّها بالطبع شكّلته فطريّاً منذ البداية, وهي ليست بالمعين المتجدّد الذي يجلب الحضارة العمرانية المطلوبة على المدى الطويل فإذا هي من تلائم الشخص لهواها وليس العكس, كحالة اللهجة البدوية التي ما زالت في استمراريّة قويّة بزخّها الدائم لتعابير حيويّة لا غنى عنها. هذه الأمور أدرَكَها بدوي النقب وشكّل مع تلك الصحراء تقاليده وأدبه الخاص. مع بعض الاستثناءات التي لا تشكّل خطراً لمدىً طويل على الثقافة والأدب البدوي في النقب.
والآن تعالوا بنا للغوص في أعماق هذا الأدب التقطت منه إشارات معيّنة تطغى على الحياة البدوية قديماً وما زالت, هذه الإشارات التي سأدرسها قلباً وقالباً من جذورها الجاهليّة ومدى ترابط وتشابك تلك الإشارات كونها تشكل ثقافة البدو هنا مع ثقافة أهل الجزيرة العربية في القدم خصوصاً الفترة الجاهليّة التي صدرت موجات هجرة إلى أنحاء المعمورة, هذه الموجات التي حملت معها موروثها الخاص وترسّب في اذهان أجيالهم التالية, فنحن امام محاولة لاستكشاف العمق التاريخي لبدو النقب وجذوره البعيدة ومصادرها.
*الاشتراك الأدبي والثقافي بين النقب والجزيرة العربية
كانت الحجاز ونجد هي المواطن الأُولى للبدو أيّاً كانوا, هذه المناطق التي نبع منها أساطين الشعر العربي, بل أنها مركز بدايات نشوء الثقافة العربية باعتقاداتها ومبادئها وسلوكها, هذه الثقافة العربية التي صدّرت ظروف معيشتها مع المهاجرين منها, والذين بالطبع كان منهم أهل النقب لما نلحظه من امتدادات ولو ذهنية ونفسية تجاه أهل الجزيرة العربية, والثقافتان للنقب والجزيرة تشتركان بأمور كثيرة ومتداخلة منها:
- الروابط التاريخية: اعتبرت صحراء النقب موطن لقبائل أتَتْ من الجزيرة العربية على مدى قرون طويلة, كونها تلائم المكان الذي أتَتْ منه هذه القبائل في معيشتها وحياتها بالإضافة إلى كونها طريق تجاري واثري منذ العصور القديمة, بل أنها شكّلت مراكز حيويّة لدول عظمى قامت هنا كالأنباط والبيزنطيين والعرب والأتراك.
تصل شيبان النقب انساب قبائلها إلى الجزيرة العربية والى منطقة الحجاز بشكل خاص (نلمس هنا نوعاً من اثار الهجرة في الفتوحات الإسلاميّة) فبليّ من الحجاز على سواحل البحر الأحمر, وكذلك العزازمه والترابين أيضاً الذين يدّعون أنهم حجازيون من تُربة شرقي مكة, لا شكّ أن هناك موجات هجرة موغلة في القدم لقبائل عربية أتَتْ إلى صحراء النقب لا سيّما زمن الفتوحات الإسلاميّة. والروايات تُفيد أن عمرو بن العاص اتخذ بئر السبع مقراً له لفترة زمنيّة معيّنة, الأمر الذي يدلّنا على أن هناك عرب حجازيون قد شكّلوا لهم تواجد نوعي هنا وإلاّ لما كانت القائد عمر بن العاص ليختار هذا المكان مقرّاً له... ونحن لا ننسى الامارة البدوية التي قامت في الرملة لقبيلة طيء وأمراءها آل الجراح...
استمرت هذه الهجرات من الجزيرة العربية سواء كانت قبليّة أو فرديّة أو جماعيّة وذلك لاغراض مختلفة منها أما لهروب من الثار أو البحث عن الرزق بالتجارة أو البحث عن عمل أو لغرض أُسري قراب كاللحاق بقريب ما... كما أن هناك حركة دائمة كانت من الحجاز وخاصة سواحل البحر الأحمر إلى هذه البلاد كقبيلة بليّ التي انتشرت بكثافة في سيناء والأردن والنقب, وحملت معها موروثها الشعبي (انظر في الملاحق قبيلة الظلام كنموذج) موروث أصبح ذا ابعاد تراثيّة ما زالت شذراته قائمة بين أعقابها.
هناك سؤال يطرح نفسه لماذا اتجهت قبائل النقب القديمة إلى هنا وتركت بلاد الشام الاكثر خصوبة؟ وللإجابة على هذا السؤال يجب النظر إلى التركيبة القبليّة التاريخيّة لقبائل الشام, إذ تُشير المصادر القديمة إلى أن بلاد الشام هي موطن للقحطانيّة اليمنيّة التي كانت على عداء مستمر لأهل الحجاز ونجد, ولا شكّ أن هذا الأمر استمر ولو بصورة مغايرة أُخرى إذ أنه في العصور الحديثة كانت بادية الشام لقبائل قويّة هي طيء وكلب وأولاد علي من شمّر على وجه الخصوص, وكانت تتصدّى لأي محاولة نحو اختراق وتوغّل في البادية من قِبَل البدو أيّاً كانوا, فأجبرت القبائل الضعيفة نسبيّاً على أن تتجه لصحراء النقب بحثاً عن الكلأ والماء. هذا بالإضافة إلى أن الشام كانت مراكز استعماريّة بحيث كانت القبائل تدفع الضرائب للسلطات المركزيّة, وبما أن القبائل سالفة الذكر لها وزن قويّ وتسيطر على خطوط الحج الرئيسيّة, فإنها استطاعت التعامل مع السلطات الاستعماريّة بمبدأ "هات وخذ" في حين أن القبائل الضعيفة لم تستطع حتى الوصول إلى مراكز القوى فلذلك اتجهت إلى الأطراف والمناطق الأقل عُرضةً لجباة الضرائب كصحراء النقب.


www.deyaralnagab.com