logo
1 2 3 45603
نساء قرية الطفل ريان و«عمي علي» وسائق الجرافة… أبطال لم يبحثوا عن اللقب!!
08.02.2022

الرباط – نساء قرية الطفل ريان و”عمي علي” الصحراوي وسائق الجرافة، معادن مغربية لا تنصهر في الحرارة ولا تستسلم للهب أبداً. لم يبحثوا عن البطولة أو عن الشهرة، بل قاموا بما يقتنعون به، الهاجس الإنساني أولاً والانتماء للوطن والتضحية والإيثار في سبيل طفل صار ابن الجميع.طيلة فترة المواكبة الإعلامية الكبيرة لتفاصيل عمليات إنقاذ ريان، توارت نساء قرية “إغران” بجماعة تمروت في إقليم شفشاون شمال المغرب، عن الأنظار، لكنهن كن في الواجهة الخلفية مثل جنود الخفاء يطبخن ويهيئن ما يسد رمق فرق الإنقاذ ويقويهم ويمنحهم الطاقة للمواصلة.“عمي علي” الصحراوي من جهته لمع مثل بدر في ليلة مظلمة، حين قاد فريق التنقيب اليدوي في النفق المؤدي للطفل ريان، ونجاح عملية الحفر في الوصول إلى الملاك الذي اختاره الله إلى جواره.سائق الجرافة الذي اشتغل ثلاثة أيام بلياليها دون توقف، لم يبحث بدوره عن النجومية أو البطولة، قال كلمته الشهيرة: لن أرتاح حتى يخرج “ابني ريان حياً”، ومضى. ابن الجميع، صار نبضاً جماعياً ليس في المغرب فقط بل في العالم.هذه المواقف النبيلة لنساء الدوار و”عمي علي” وسائق الجرافة الذي لا يعرف اسمه، ونماذج أخرى قد غابت عن عين الإعلام، هي التي جعلت العالم يقف باحترام لتآزر المغاربة، وجعلت بابا الفاتيكان يخصص في عظة الأحد حيزاً لريان وللشعب المغربي الذي لم يدخر جهداً في محاولة إنقاذ ابنه.“عمي علي” الملقب بـ “الصحراوي” صار بطلاً رغم أنفه، لم يبحث عن ذلك اللقب ولا يريده، فقد قام بواجبه وساهم بشكل كبير في الحفر الأفقي الذي أوصل فريق الإنقاذ إلى ريان.هذا البطل الاضطراري، إن صح التعبير، لبى نداء المواطنة ونداء الإنسانية وحفر في التربة والصخر برفقة عناصر الدفاع المدني، هؤلاء الرجال الذين غاصوا عميقاً في الجبل حتى لامسوا الخطر وشيكاً، ورغم ذلك لم يتراجعوا.“عمي علي”، واسمه علي الجاجاوي، يقف في مدخل النفق بقامته المربوعة وملامحه المحفورة السمراء وابتسامته العفوية، وينزع عنه “جاكيط” الأسود الذي كان يرتديه، ويتقدم فريق الإنقاذ بخبرته الطويلة في حفر الآبار دون آليات حديثة، هي الممارسة الميدانية التي أضافت إلى معرفة المهندسين والطوبوغرافيين الشيء الكثير.الرجل الذي عاش طيلة 20 عاماً الماضية من عمره الذي بلغ الخمسينيات اليوم، وهو يكسب قوته من حفر الآبار بطريقة تقليدية، كان رهن الإشارة لتلبية نداء إنقاذ الطفل ريان، هب وشمر عن ساعديه و”رزته” (غطاء الرأس) ونبضه كله أمل، ومضى يغوص في الأعماق.هذا الملقب بـ “الصحراوي” نسبة إلى أصوله التي تعود إلى مدينة أرفود الواقعة في الجنوب الشرقي للمملكة، شهرته تتعدى منطقته وتجاوزتها إلى مختلف مناطق البلاد، فصار مرجعاً في حفر الآبار، وهي المعرفة والخبرة التي لم يتأخر في تقديمها على طبق من محبة ووطنية للمساهمة في إخراج ريان من ظلمة البئر.وكان بالفعل النجاح حليفه وحليف الفريق الذي رافقه من عناصر فريق الإنقاذ، وتمكنوا من الحفر أفقياً، لم يأبهوا لمخاطر انجراف التربة، كانوا يحتمون بإيمانهم وتضحيتهم وبأنابيب فولاذية وضعت بعد كل متر يتم حفره حتى يشكل ما يشبه السقف فوق رؤوسهم العارية إلا من قبعات الوقاية التي ما كانت لتشكل فرقاً لو (لا قدر الله)، انهارت التربة.بعد خروجه لم يصرح “عمي علي”، ولم يلتفت للكاميرات التي كانت تتابعه، كان يستجيب لبعض الصور ببراءة وبساطة وعفوية ويشرب الماء وهو يجلس القرفصاء، والأهم أنه كان سعيداً بنجاح عملية الحفر الأفقي للوصول إلى المكان الذي كان يقبع فيه الملاك ريان.طبعاً، المغاربة والعالم بأسره كان في موعد العرفان، وقالوا الكثير عن “عمي علي” الصحراوي، أثنوا عليه وشكروا جهده وربتوا على كتفه افتراضياً عبر تدوينات و”ستوريات” وتغريدات.لم يكن وحده “عمي علي” من بصم على حضور إنساني بليغ جداً، بل حتى سائق الجرافة الذي رفض الاستراحة بعد مضي ثلاثة أيام بلياليها وهو يحفر دون توقف.ذلك الرجل الذي يبدو من ملامحه أنه يشارف العقد السادس، لم يعرف أحد اسمه، ولم يشأ أن يسجله في وسائل الإعلام، اكتفى فقط بتصريح مقتضب جداً صار مرجعاً في الإيثار حين قال: “لن أتوقف حتى يخرج ولدي ريان حياً يرزق”.لك “الكبد” الأبوي الذي يتحرك في سائق الجرافة هو مبعث أمل في أن الإنسانية ما زالت وستظل بخير ما دام فينا أمثاله وأمثال عمي علي ونساء الدوار وعناصر الإنقاذ والقوات المساعدة والدرك الملكي ومختلف الذين رابطوا في الموقع دون أن يتحركوا، ناموا تحت الشجرة وفي العراء.إلى جانب هؤلاء الرجال، تقف نساء الدوار منتصبات القامة ليبصمن على الحضور الإنساني النبيل نفسه، هن خلية نحل وملائكة رحمة عالجن أعطاب الجوع والعطش بالطبخ والإعداد وتهيئ ما يسد رمق فرق الإنقاذ، بل حتى القادمون من المواطنين الذي حلوا بالقرية من أجل الدعم المعنوي والمساندة لم يبقوا جوعى أو عطشى.الصورة التي تداولها رواد موقع التواصل الاجتماعي لنساء يعكفن على “طناجر” ضخمة موضوعة فوق النار في مطبخ نصب في الهواء الطلق، هي جزء من صورة أعم وأشمل لروح التآزر التي يعرف بها المغاربة في أوقات الشدة.ويكفي أن نذكر أن في الجنازات أسرة الفقيد أو الفقيدة لا تطبخ ولا تتعب ولا تكلف نفسها، الجيران والأهل والأصدقاء هم من يتكفلون ذلك، هي بذرة الخير التي تتواصل رغم التحولات المجتمعية.نساء القرية تطوعن، ولم يتم تكليفهن من طرف أي شخص، فقط الوازع الاجتماعي والإنساني هو الذي جعلهن يبادرن إلى تسخير أنفسهن لتقديم يد العون عبر تزويد الجميع بالطعام والطاقة للاستمرار.محنة مرت وبقي صدى التضامن أنشودة في أذن المجتمع المغربي بكل تأكيد، الذي لم يفته توجيه التحية لعناصر فريق الإنقاذ ومختلف عناصر القوات المساعدة والدرك الملكي وكل من غالب البرد ووعورة المنطقة وسافر لكي يكون قريباً من نبض ريان الصغير الذي يعلم جيداً أن وطنه لم يدخر جهداً من أجل إنقاذه، لكن الله اختاره إلى جواره.
**كتب:عبد العزيز بنعبو. القدس العربي


www.deyaralnagab.com