logo
1 2 3 41058
صحافة : فورين بوليسي: الانسحاب من أفغانستان كان مأساويا وليس كارثة استراتيجية!!
23.08.2021

أكد الأكاديمي الأمريكي ستيفن والت، المحاضر في جامعة هارفارد، أن الانسحاب الأمريكي كان مأساويا لكنه لم يكن كارثة استراتيجية. وجاء بمقال نشرته مجلة “فورين بوليسي”: “كما بدا واضحا مثل الشمس، توصلت جوقة من المتشددين الانتهازيين من أعداء الخارج وعدد من المعلقين المتعقلين عادة بالتوصل لنتيجة وهي أن مصداقية أمريكا تضررت أو دمرت من الهزيمة في أفغانستان”.
وكتب المعلق المتطرف بريت ستيفن في صحيفة “نيويورك تايمز” بأن “كل حليف، تايوان، أوكرانيا ودول بحر البلطيق، إسرائيل واليابان، سيستخلص الدروس بأنه بات وحيدا” دون سند الولايات المتحدة. وفي محاولة لتقويض معنويات سكان تايوان، وافقت صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية مع ستيفنز محذرة قادة تايوان أن أمريكا لن تسارع إلى نجدتهم حالة هاجمتهم بيجين. وحتى المعلق جدعون راتشمان، الهادئ عادة، كتب في صحيفة “فايننشال تايمز” قائلا إن سمعة بايدن “مزقت” وإن الكارثة في أفغانستان “تناسب تماما” زعم أنه “لا يمكن التعويل على الضمانات الأمنية الأمريكية”.

ويعتقد وولت أن ستيفنز غير قابل للتراجع عن موقفه أو التوبة، ويجب التعامل مع آراء “غلوبال تايمز” بأنها أداة دعائية للنظام الصيني ويجب عدم أخذها بجدية، ولكن على الجميع التنفس عميقا والراحة. ففي الحقيقة هناك عدة أسباب تدعو للاعتقاد أن النتيجة المأساوية في أفغانستان لن تؤثر على مصداقية الولايات المتحدة بل ولن تؤثر عليها أبدا.
والسبب الأول نابع من المنطق، فاتخاذ قوة عظمى قرارا بعدم مواصلة حرب عبثية من أجل مصالح أقل حيوية لا يعطي الكثير من الفهم حول ما إذا كانت هذه القوة ستقاتل حالة تعرضت مصالحها الحيوية للخطر. ويجب على أي شخص ألا يستنتج أن الانسحاب من أفغانستان بعد 20 عاما وخسائر 2.500 جندي وكلفة تريليون دولار بأن الولايات المتحدة لن تدافع بشراسة حالة تعرضت ألاسكا أو فلوريدا وهاواي للخطر. ولا يجب أن يفكر أحد بأن الولايات المتحدة لن تقاتل لمنع الصين من الهيمنة على آسيا أو منع هجوم روسي (غير محتمل) على الناتو. والسبب واضح وهو أنه في كل من واحد من هذه الأمثلة نتحدث عن مصالح حيوية قد تؤثر وبعمق على الأمن الأمريكي وبعدة طرق.
وأكثر من هذا، فوقف النزيف الطويل الأمد من المصادر الأمريكية (وحتى البقاء المحدود في أفغانستان كان يكلف الخزينة الأمريكية 40 مليار دولار سنويا) سيعطي الولايات فسحة للتركيز على الأولويات الكبرى، وسيزيد من قدرة أمريكا للدفاع عن هذه المصالح وكذا الانتباه الذي ستعطيه لها، مما يعني استمرار مصداقيتها تجاه الالتزامات المتبقية. وكما قال جورج كينان في سياق الحرب بفيتنام “هناك احترام كبير يمكن تحقيقه على صعيد الرأي العام العالمي عبر القرارات الحازمة والشجاعة وتصحيح المواقف غير الصائبة أكثر من المواصلة العنيدة لأهداف مكلفة وعبثية”.
ويعطي التاريخ تأكيدا للسبب الثاني، فقد عانت أمريكا من هزيمة منكرة وعلى قاعدة مشابهة في فيتنام التي خسرت فيها أكثر من 50.000 جندي، إلا أن الانسحاب الأمريكي وسقوط سايغون اللاحق لم يؤديا إلى انهيار حلف الناتو ولم يدفعا حلفاء واشنطن في آسيا للاصطفاف مع الاتحاد السوفييتي أو الصين ولم يدفعا وكلاء أمريكا في الشرق الأوسط للبحث عن مخرج سريع. وكان كينان محقا في وصفه، فقد سمحت نهاية الحرب لأمريكا بإعادة بناء قواها التقليدية، وبخاصة في أوروبا التي أهملت أثناء حرب فيتنام. وبعد 14 عاما كان الاتحاد السوفييتي هو الذي رمي في مزبلة التاريخ. وانهارت الدول مثل الدومينو ولكن في أوروبا الشرقية.
ويمكن للواحد الحديث ولكن بطريقة أقل عن النكسات التي حدثت بعد سقوط شاه إيران في عام 1979 وخروج الولايات المتحدة من لبنان عام 1984 والانسحاب من الصومال في 1994 أو الاحتلال الأمريكي الفاشل للعراق، وقادت هذه الحوادث لنتائج سلبية لكن أيا منها لم يقد لنتيجة وهي أن أمريكا لم تعد قوة عالمية ضاربة ولم يعد دعمها مهما.
وأمريكا ليست المثال الوحيد عن الهزائم والنكسات فبريطانيا التي كان الأوروبيون يطلقون عليها “ألبيون الغادرة” أو (البيضاء الغادرة في إشارة إلى قمم جبال دوفر) لأنها كانت تعقد وتكسر التحالفات بناء على مصالحها، لكن هذا لم يمنع بقية الدول من التحالف مع بريطانيا عندما اقتضت الضرورة، وكانت لندن مستعدة لتقديمها. وتعرف كل الحكومات أن الالتزامات تكون موثوقة عندما تعكس المصالح المشتركة وأن الولاء الأعمى لا يلعب دورا فيما تقرره القوى العظمى.
أما الأمر الثالث، فيجب التعامل مع شكوى القوى الأجنبية من مصداقية أمريكا بنوع من الشك. ذلك أن النخب في الدول الأجنبية لها تاريخ طويل في الشكوى من مصداقية الولايات المتحدة في محاولات منها لدفع الولايات المتحدة عمل المزيد نيابة عنها. ففي كل مرة يفشل فيها العم سام بتحقيق أهداف السياسة الخارجية أو يقرر ضخ المصادر في مقترح خاسر، يطل علينا بعض الحلفاء ويطلقون التصريحات بأنهم غير متأكدين من مصداقية أمريكا. وفي معظم الحالات تقوم واشنطن بإرسال مزيد من السلاح لهم أو إرسال مسؤولين كبار لتأكيد الدعم لهم.
ومن الإنصاف القول إن الحرب الطويلة في أفغانستان ونهايتها المأساوية ستترك أثرها على سمعة أمريكا ولكن ليس على مصداقية التزاماتها، فهذه ليست محلا للنقاش أو الشك. فأمريكا لم تهرب عام 2006 ولا 2009 أو 2011 أو حتى 2017 في وقت كان حلفاؤها يبحثون عن مخرج.
وكما كتب والت في مناسبة أخرى فإن التأثير الأمريكي العالمي نابع من كفاءتها وحكمها الجيد على الأمور بما في ذلك العزيمة الصلبة لقراءة الوضع واتخاذ القرارات الصعبة واختيار الأهداف الواقعية ومن ثم تطبيق استراتيجية مصممة بشكل جيد. وما حدث في أفغانستان يثير الشكوك حول قدرة مؤسسة السياسة الخارجية القيام بهذه المهام. ولكن الشك قائم منذ أكثر من عقدين. والدرس الواجب تعلمه من أفغانستان هو عدم مواصلة أمريكا خوض حروب غبية من أجل سمعتها ولكن عليها البدء بمحاسبة المسؤولين عن هذه الأخطاء المتكررة والبحث عن سبب تكرارها.


www.deyaralnagab.com