قبل أيام كنت في زيارة لأحد أقربائي في مستشفى الجليل الغربي في نهاريا شمال فلسطين، مستشفى معظم نزلائه من عرب الجليل حيث الأغلبية السكانية من العرب.
في قسم العظام انتبهت لجندي من الشرطة العسكرية الإسرائيلية يجلس بمحاذاة باب إحدى الغرف، هذا يعني وجود شخص ما في الغرفة تحت الرقابة، سمعت بعض من سبقوني بزيارة قريبنا يقولون إن هناك فتى سوريًا، وما هي سوى دقائق حتى أطل الفتى من باب غرفته على كرسي متحرّك، ساقاه ملفوفتان بالجبس، إنه نحيل جدًا، تركت الهموم حوافرها على جبينه، وواضح أنه قلق مما يدور حوله.
تخيّل نفسك في مكان تجهل فيه اللغة ووجوه الناس، والأهم من هذا أنك تحت حراسة جندي سمعت منذ ولادتك أنه العدو المغتصب لأرضك ووطنك، ها هو الجندي الصهيوني أمامك، يثبت سماعتين دقيقتين في أذنيه ثم يشغل هاتفه ويسترخي في مقعده مستمتعًا بالموسيقى، وعندما يفرغ هاتفه من الكهرباء يعود لشحنه من جديد، لا توجد لغة مشتركة بينك وبين الجندي ذي الملامح الأوروبية الذي يحرسك، لا هم له سوى سماع الموسيقى ومهاتفة أصدقائه أو أهل بيته، لا يتكلم إلا نادرًا وبالإشارة، يتناول الوجبة نفسها التي يقدمها المستشفى لك ولنزلائه في الوقت ذاته.
لا يفصل بين غرفة قريبي وغرفة الفتى السوري سوى خطوات، يبتسم كلما التقت نظراته بنظرات عربي أو عربية، يستطيع معرفتهم من اللباس واللغة، كذلك معظم الممرضين والممرضات وبعض الأطباء من العرب. تتسع ابتسامة الفتى كلما اقترب منه لغط باللغة العربية، لا شك أن الألفاظ العربية هنا تمنحه شيئًا من الطمأنينة، فهو في أرض العدو، إلا أن اللغة بلهجة أهل الجليل لا تختلف كثيرًا عن لهجة أبناء سورية في منطقة القنيطرة.
كان الجندي ناعسًا غارقًا في مقعده، منسجمًا مع الموسيقى.
تسللت إلى الشرفة المقابلة لغرفة الفتى…وأومأت له بأن يتقدم ناحيتي…فحرك العجلة بيديه وتقدم…
-من أين…
-من قرية في محافظة القنيطرة..
-كم عمرك…
-خمسة عشر عامًا…
- أين إصابتك؟
-شظايا في كل الجسم وكسور في الساقين..
-لماذا أصبت، أنت مع الجيش الحر؟
-أنا طالب، كنت عائدًا من المدرسة عندما سقطت قذيفة أصابتني وآخرين.(قتل في سورية حتى الآن حوالي (11500)طفل)
-ولماذا قصفوا القرية؟
-في القرية وحولها يوجد جيش حُرّ، تجري اشتباكات، وتقوم قوات النظام بقصف القرية بين حين وآخر عشوائيًا…
-أهل القرية ضد النظام…
-معظمهم ضد النظام..أحيانًا يرسل جيش الأسد اقتراحًا لوقف القتال مع أهل القرية ولكن الأهالي يرفضون…
-لماذا يرفضون؟
-لأن هدف جيش الأسد هو تجميع قوته لاقتحام قرى أخرى، الأهالي لا يخونون إخوانهم..
-وكيف وصلت الى هنا؟ لماذا لم تذهب الى مستشفى في دمشق مثلا…
-نحن ظهرنا للشريط الحدودي (شريط وقف إطلاق النار) والطرق إلى دمشق مغلقة، ويعتبروننا إرهابيين أو مخربين، إذا ألقوا القبض عليّ (بيكفّوا عليّ) يُجهزون عليّ…
تململ الجندي، وأسرع الفتى ليعود إلى غرفته وهو يقول…’أنا ممنوع أن أحكي معك أو مع أي أحد’.
-حسنًا سجل رقم هاتفي وإذا احتجت شيئا اتصل، أنا قريب من هنا…
-لا لا أريد أن أؤذيك…اليهود طلبوا أن لا أحكي مع أحد..لا مع صحافة ولا مع أي كان، أنا أخشى عليك بأن يؤذوك.
ودّعت الفتى على أمل زيارته ثانية خلال الأيام القادمة.
قال لي قريبي المسن، لقد دارت دائرة الهجرة والموت، كنا في سوريا عام النكبة، يومها انسحبنا مع جيش الإنقاذ ،لا أحد يستطيع إنكار نخوة السوريين وحميتهم وشهامتهم، ها هم السوريون يعيشون نكبتهم الخاصة ولكن على يد أبناء جلدتهم، الفتى السوري لم يكن وحيدًا، هناك آخرون في المستشفى وفي هذا القسم،بعضهم بلا رقابة عسكرية، امرأة وطفلها ورجل مرافق لطفله وغيرهم، الزائرون العرب لمرضاهم يحاولون مساعدتهم ومنحهم شعورًا بالأمان وبأنهم بين إخوانهم، إنهم حذرون جدًا، وأكثر ما يخيفهم هو أن تلتقط صورة لهم.
لا شك أن هناك محرمات كثيرة قد يرتكبها الإنسان درءًا للموت،عندما يُحشر الإنسان بين خيارين كلاهما مُر، فهو يختار الأقل مرارًا، حتى الكفر لا يحاسب عليه الله إذا ما كان درءًا للموت: ‘ومن كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان’. (الآية التي أنزلت بعمار بن ياسر الذي أكره على شتم الرسول)، وإذا كان من حق آل الأسد والحلقة المحيطة بهم في الحكم إزهاق أرواح الناس كما تزهق أرواح الحشرات بمئات الآلاف، وتدمير البلاد وتشريد العباد وهتك الأعراض لأجل البقاء في سدة الحكم، فمن حق الناس أيضا أن يعالجوا أنفسهم في أرض العدو، خصوصًا عندما تكون تهمة الإرهاب وحكم الإعدام جاهزًا لدى رجال النظام وشبيحته. هؤلاء الذين يدخلون عبر شريط وقف إطلاق النار لا يدخلون حبًا بإسرائيل ومستشفياتها، ولا بالجندي النائم على الكنبة، لم يأتوا هنا لتسليم أسرار بلادهم التي لا يبدو أن فيها أسرارًا أصلا أمام الأعداء، ولا هم متآمرون، مثلهم مثل أولئك الذين هربوا من الجحيم إلى تركيا أو الأردن لأنها أقرب إليهم حدوديًا، أو إلى أي بلد من بلاد الله الواسعة، ببساطة دفعهم خطر الموت إلى هذا المكان.
أما الخيانة الحقيقية، فهي تبدأ عندما يُتهم المعارض بالتآمر على وطنه، والمتظاهر المتفجر ألمًا بأنه قابض أجره من الأعداء، وعندما يُقتل الشرفاء وتشوه سمعتهم بتهمة التآمر على الوطن ويدفنون وتدفن الحقائق معهم.
لا شك أن إسرائيل شاطرة، ولكنها أكثر حذقًا بسبب تياسة ووحشية من هم بإزائها، وستحاول الاستفادة من هذه الحالات إعلاميًا على الأقل، وسوف تروّج أمام العالم عن توفير الأمن والعلاج لهؤلاء المنكوبين، رغم ما تقوم به بحق الفلسطينيين من جرائم وحشية، فهي تحاول تغطية جرائمها بورقة توت يقدمها لها النظام الفاشي على طبق من ذهب ودماء، وقد تحاول استغلالهم أو استغلال أقربائهم لأغراض أمنية، هذا إذا ما وَجَدتْ لديهم شيئا لا تعرفه أصلا، كل هذا متوقع حدوثه في البلاد التي ينتشر فيها الظلم والفساد والقهر..فالعدل أساس الحُكم، وعندما يغيب العدل والمساواة والإنصاف بين الناس فلا مبرر لبقاء الحكم…