دمّك خفيف إن شاء الله…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 15.03.2018
الكلمة قوة هائلة، قد تلقيها من دون أن تنتبه، ولكنها كالبذرة تنمو بهدوء، حتى تصبح شجرة طيبة أو خبيثة.
كنت في التاسعة أو العاشرة، عندما صرخ في وجهي فتى يكبرني ببضع سنوات» إنت دمّك ثقيل انقلع من هون»، وذلك بعدما دخلتُ ساحة لعب بدون استئذان، وركلت الكرة، وسببت إشكالاً بين اللاعبين، حينئذ توجه إليّ وهو غاضب، وأطلق رصاصاته في وجهي.
منذ تلك اللحظة ارتفع حاجزٌ بيني وبينه، لا أكرهه، ولكنني أتجنبه، كبرنا وصار مدرّساً، إذا التقينا صدفة في مكان عام، أحييه، وأسأله عن أحواله، ولكن لم أنس كلماته أبداً.
صار مديراً في الثانوية حيث تعلم أولادي، زرت المدرسة، ودخلتُ إلى غرفته، فقدم لي فنجان قهوة وتبادلنا أطراف الحديث. انتهزت الفرصة وذكّرته بما قاله لي قبل أربعة عقود، فاستغرب وقال إنه لا يذكر، ثم ضحك وقال: كاين مرتكب جريمة بحقك.إذن أعتذر منك عما بدر مني، سامحني.
إنه من أنجح المعلمين، يحبّه الطلاب والأهالي على حد سواء، ومنذ هذه المفاتحة، تحسنت علاقتنا كثيراً، وصرنا نتبادل الابتسامات إذا ما التقينا.
إلا أنني وللأسف ارتكبت الخطأ نفسه، قبل أكثر من عقدين، دعتني معلمة في القرية بصفتي كاتباً للتحدث أمام طلابها بمناسبة يوم التراث.
كان أحد الطلاب يقاطعني، بكلام لا علاقة به بالموضوع، وينتقل من مقعد إلى آخر، ويشوّش عليّ وعلى الطلاب، ويسقط قرطاسية على الأرض ليلمَّها، ثم صار يقلّد حركاتي، ويعيد كلماتي، والمعلمة لسبب ما لم تتدخل، وبدا لي أنها يائسة منه، وربما لها تجربة قاسية مع وليّ أمره، لم يرتدع رغم تنبيهي له عدة مرات، إلى أن فقدت صبري وصرخت فيه بقوة فاجأتني حتى أنا:»إسمع يا ولد، حُطّها في أذنك للأبد، إنت زنخ ودمك ثقيل، فاهم شو يعني زنخ».
كانت صرختي جبّارة، حتى المعلمة اختلف لونها، انكمش الولد في مكانه ولم يعد يتحرك، ينظر إليّ نظرة غريبة وهو مبخوع. شعرتُ بتأنيب ضمير، ووددت لو أنني لم أفعل.
مضت السنين، وكبرنا عاماً بعد عام، وأينما التقيته صدفة، كنت ألمح تلك النظرة الغريبة التي يرميني بها، أحياناً تتسع فتحتا عينيه، كأنه يصحو للتو من نعاس، فإذا كان يتحدث ورآني قادماً، صمتَ للحظات حتى أمُر، فإذا وقفت بالقرب منه، أدبر بظهره، كأنه لا يريد لأعيننا أن تلتقي.
صار الفتى ثانوياً ثم جامعياً يدرس الحقوق، وكلّما رأيته، شعرتُ بأنه يقول لي: انظر إلى الولد الزنخ ثقيل الدم كيف صار محامياً، إلى أن افتتح مكتباً.
في يوم ما احتجت إلى محامٍ في قضية بسيطة، ففطنت به، وقلت لنفسي، سأذهب إليه، وستكون هذه بمثابة اعتذار. قد ينتقم بطريقة سامية تُحرجني، مثلاً بأن يرفض تقاضي أجرته، وهذه طريقة عقاب قاسية، هي في الواقع تحريض لضميرك كي يؤنّبك أكثر على غلطتك بحق إنسان كريم ومتسامح، وقد يسألني:»هل تذكر ما قلته لي يوماً في المدرسة»؟. سأدّعي بأنني لا أذكر، وسأقول إننا نتفوه أحيانا بكلمات تفلت منا في لحظة غضب ولكن لا نقصدها، وهناك احتمال بأن يطلب أتعاباً ضعف ما يطلبه المحامون عادة، وحينئذ سوف أدفع له بطيب خاطر، وأتحرر من هذا الشعور الثقيل تجاهه إلى الأبد.
إنها فرصة، وذهبت إليه. استقبلني مرحّباً، ثم دخل إلى زاوية داخل مكتبه ليعدّ لي وله فنجان قهوة. كنت متأكداً أنه يفكر بكيفية الانتقام، وذلك من نظراته المختلسة والتفاتاته المفاجئة إليّ.
قدم لي فنجان القهوة وقال: أهلا وسهلا، من زمان حابب أقعد معك..
ـ وأنا والله…
ـ عمّي أنت لك فضل كبيرٌ عليّ…
ـ يا ساتر، قلت لنفسي، إنه يستعد لانتقام موجع بطريقة أدبية..
ـ أنت علمتني درساً قاسياً في حياتي، ربما أنك نسيته، ولكنني لم ولن أنساه..
ـ أنا؟أنا علمتك درسا؟
ـ نعم أنت، ربما أنك لا تذكر…
ـ أها، وما هو الدرس؟
ـ هل تذكر يوم قلت لي أنت زنخ ودمك ثقيل؟
ـ نعم أذكر..
ـ أتذكر حقا؟
ـ نعم أذكر جيداً، كان هذا في يوم التراث مع المعلمة نجاة..
ـ صحيح، ومن يومها وأنا أحدّث نفسي، يجب أن أعتذر لك، فأنا بالفعل دمي ثقيل.
ـ لا لا لا سمح الله، هذه كلمات عابرة قلتها في لحظة غضب…
ـ لا لا، ليس سراً أن دمي ثقيل، قالها لي كثيرون ولم يؤثروا في أبداً، بالعكس، كنت أجد متعة بأن أسمعها، لأن هذا في سلالتنا، ثقل الدم يجري في عروقنا، هذا ورثته من أخوالي بالجينات، انظر خالي محمود اسم الله عليه، من ثقل دمه بالكاد يستطيع أن يمشي، وانظر إلى خالي بسّام ما شاء الله، هذا سينتحر إذا وجد من هو أثقل ظلا منه .
ـ أف..
ـ يا زلمة جدّي طقّ ومات من ثقل دم أولاده…
ـ الله يرحمه…
ـ تعيش، عندما يقولون لك إن قصتك أو مقالتك جميلة، ألا تشعر بالمتعة؟
ـ طبعا أشعر بالمتعة…
ـ وأنا كانت متعتي أن يقولوا لي دمك ثقيل…
ـ ولو؟!
ـ أنا كنت مدمناً على الزناخة، ولكن عندما قلتها لي أنت بالذات كانت قاسية جداً، كانت صفعة، غيرك يقولها ولا يهتم لأثرها، ولكن أنت ندمت، رأيت هذا في عينيك، كأن لسانك خانك، شعرت بضيقك، كنتَ تود لو تعتذر، ولكن لم يعد هناك مجال، وأنا شعرت بتأنيب ضمير كبير، لأنني أرغمتُ محترماً مثلك على النطق بها، ولكن لو اعتذرتُ لك في حينها، لضحك كلُّ الأولاد، وما فهموا أن اعتذاري حقيقي هذه المرة، ولما صدقتني المعلمة، ويبدو أنني كنت بحاجة لصدمة لأصحو، كلما التقينا وفي أي مكان، كنت ألمح الارتباك في عينيك فأتهرّب منك، أشعر كأنك تريد الاعتذار على ذنب لم ترتكبه، والآن أنا متأكد بأنك جئت عندي في قضية بسيطة، رغم وجود عشرات المحامين من أصحاب التجربة والأقدر مني، ولكنك جئت لتريح ضميرك، وأعرف أنني مهما طلبت من أجرٍ، سوف تدفع وأنت راضٍ، هل كلامي صحيح؟
ـ صحيح مئة بالمئة..
ـ هل سامحتني على زناختي وثقل ظلّي..
ـ طبعا سامحتك، وأنت سامحني على كلامي بحقّك.
بعد أن حكيت له مشكلتي، سألته كم سيكلفني هذا الملف!
ـ فقط أريد منك اعترافاً بأن دمي خفيف..
ـ بسيطة يا أخي دمك خفيف، شربات…
ـ بتحكي جد..!
ـ آه، دمك خفيف إن شاء الله..
ـ وحياتك بلاش مجاملة…
ـ ولك شو مجاملة، أنا ما بجامل بهيك موضوع، خلص اتكل على ربك، أنت دمك خفيف..
www.deyaralnagab.com
|