“ثورة محطّمة” أم توثيق مسموم؟ قصّة هوغو تشافيز: الحقيقة في النصف الغائب !!
بقلم : ندى حطيط ... 08.02.2019
لا تحدث الانقلابات بالصدفة. هي دائماً تحتاج إلى ظروف موضوعيّة تجعلها ممكنة وعلاقات متينة بسفارة مهمّة واحدة على الأقل، وعيون في وحدات الجيش المختلفة، ومن ثم تحضيرات مكثّفة وخطّة تحرّك وحشد، وبرنامج زمني، وأيضاً استثمار ماليّ لتغطية التكاليف وشراء بعض الذمم المعروضة للبيع.
وفوق ذلك كلّه أنت بحاجة إلى الكثير من البروباغاندا قبل وأثناء وبعد الانقلاب لضمان الحصول على قبول الكتل الشعبيّة لمشروع إسقاط حكومة تتمتع بالشرعيّة الانتخابية، وحبذا أيضاً كسب تأييد بعض حكومات العالم – ودائماً بالتنسيق مع السفارة المهمّة ذاتها لتسهيل سريّة التواصل – وإيهام الجميع بأن الانقلاب – لحظة نجاحه – سيشرق مثل شمس صباح يوم جديد يعيد بناء الحريّة والأمل، وأنّه سيستحق لذلك شرعيّة مستحدثة، وتقبلاً من النظام العالميّ في جزئه الغربي على الأقلّ، شريطة أن تبقى الدولة بعد استقرار الأمور للانقلابيين جزءا من المنظومة الرأسماليّة المعولمة، فلا يشطح أصحابه نحو أحلام خطرة كالاستقلال الفعليّ، أو العدالة الاجتماعية أو تأميم الموارد أو مصاحبة الدّول (المارقة).
هذه الوصفة لم تعد لا سريّة ولا سحريّة، وتدرّس في كليّات علوم السياسة الغربيّة، إذ أن 90 % تقريباً من تلك الانقلابات التي تمت طوال السبعين عاماً الأخيرة طُبخت من ألفها إلى يائها في ولاية فرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكيّة حيث المقرّ الرئيس لوكالة الاستخبارات المركزيّة الأمريكيّة. وحتى لو لم تحظ بفرصة الاطلاع على “دليل العمل” الذي يعتمده موظفو الوكالة المذكورة فإن قراءة تاريخ بعض الانقلابات الكلاسيكيّة يغنيك عن ذلك: الانقلاب على مصدّق في إيران (1953)، وكذلك على الليندي في تشيلي (1973) والقائمة طويلة، حسب اهتمامك جغرافياً ولغويّاً.
في الحالة الفنزويليّة اليوم، ورغم إبداع وحيد يتيم حول طريقة إعلان الانقلاب على حكومة البلاد المنتخبة، فإن ذات توجيهات “دليل العمل” تتبع بحذافيرها دون تغيير يذكر، وهي معلنة وتغطيها الصحف يومياً وتبث مباشرة على شاشات التلفزيونات.
“*بي بي سي” تحكي قصة الثورة البوليفاريّة
بريطانيا، التي لا تفوتها المشاركة ولو رمزيّاً في كل مشروع غزو أمريكي تعرفه الذاكرة المعاصرة من أفغانستان إلى العراق، الكتف بالكتف، والجريمة بالجريمة حتى لم يعد الشهداء يعرفون من الذي قتلهم بالفعل من الجيشين، تتطوع من جديد لإيذاء شعب جديد، وهذه المرّة فنزويلا. لا بدّ أن السلطات البريطانيّة مطلعة ولو بحكم المجاملة المحضة من الشريك القابع على الجانب الآخر من الأطلسي على خطة الانقلاب لا سيّما وأن هناك أرصدة هائلة من الذهب الفنزويلي (مخزّنة) لدى بنك إنجلترا، إذ أن ال BBC وبكل البراءة المعروفة عنها – لا سيّما في برامجها الوثائقيّة عن العالم الثالث – استبقت بايّام قليلة لحظة الصفر لإعلان الرّجل البرتقالي عن اعتراف الولايات المتحدة بشخصيّة جهزتها عبر سنين رئيساً للبلاد بدلاً من رئيسها الشرعيّ المنتخب نيكولاس مادورو – رفيق وخليفة مطلق الثورة البوليفاريّة الراحل هوغو تشافيز – لتقدّم لجمهورها فيلماً وثائقيّاً تلفزيونياً ضخماً من إنتاجها عنوانه: “ثورة محطّمة: قصّة هوغو تشافيز”، غرضه الأوحد في ما يبدو تحضير الجمهور البريطانيّ لتقبل دعم الديمقراطيّات الغربيّة (المزيّفة) لمبدأ إقصاء حكومة شرعيّة منتخبة من السلطة – ما دامت ليست خاضعة للكاوبوي الأمريكي الأشقر -.
*الثورة والتوثيق: من يخدم من؟
كما هو متوقع، فإن “ثورة محطمّة” تسجيل توثيقيّ مكثّف لمصاعب العيش اليوميّ في فنزويلا، ومن ثمّ تحميل صريح لوزر تلك المشاكل على تراث الزعيم الراحل تشافيز وخليفته الرئيس الحالي مادورو. ولم يكلّف القائمون على الوثائقي العتيد أنفسهم عناء تسجيل الإطار الاجتماعي والطبقي والتاريخيّ للبلاد أو التلميح حتى للعقوبات الاقتصادية التي تفرضها واشنطن وحلفاؤها عليها وبشكل متصاعد منذ تولي تشافيز الحكم عام 1999.
ولا يمنح الوثائقيّ الشديد الانحياز مشاهده وقتاً حتى لاستعراض كمّ كافٍ من متاعب فنزويلا ليبرر حكمه القاسي على تشافيز، إذ هو يقفز إلى الاستنتاج مبكراً بأن الرئيس التاريخي للبلاد كان أول السياسيين الشعبويين في القرن الحالي وأنه كان الرائد لكل الموجة الشعبويّة الحاليّة التي اجتاحت دول العالم (الدّيمقراطيّة) من الهند إلى هنغاريا، ومن إيطاليا إلى الولايات المتحدة ذاتها.
لم يجد الوثائقيّ – المسموم – مناصاً من الاعتراف بالإنجازات الاستثنائية للثورة البوليفاريّة في مجالات التعليم والرعاية الصحيّة التي كانت سجلتها الأمم المتحدة في تقاريرها من هناك، لكنه سارع إلى وصف تلك الإنجازات بكونها خدعة تشافيزيّة قصيرة العمر كان الهدف منها زيادة شعبيته وتمكينه من الانفراد بالسلطة.
قصة تشافيز وفق وثائقي الـ”بي بي سي” أن الرّجل كان ببساطة طالب سلطة وأنه خدع الشعب الفنزويلي بكاريزماه، فصعد على كتفيه ليوقع البلاد صاحبة أكبر مخزون عالميّ من النفط في بحر الفقر والفوضى والعنف. بل وحتى حملته وزر انقلاب 2002 – ضد نفسه – بسبب إصداره الأوامر للقناصة بإطلاق النار على المتظاهرين، وهو ادّعاء كاذب إذ أنه تبيّن لاحقاً من مصادر محايدة تورط المعارضة بإطلاق النار على بعض من متظاهريها كذريعة توفّر للإنقلابيين تبريراً لتحركهم.
ويدين الوثائقي تشافيز – عاشق السلطة على حد زعم المُنتَج البصري المغرق في الأدلجة – بكونه لم يتخل عن المنصب حتّى عندما تم تشخيص إصابته بالسّرطان، وأنه خاض معانداً مرضه الانتخابات الرئاسيّة عام 2012، وانتخبته مع ذلك أغلبيّة ساحقة من الفنزويليين – البلهاء طبعاً من وجه نظر ال BBC لأنهم كانوا ينتخبون رئيساً في أيّامه الأخيرة -.
*بعض التّوازن كان ليجعل البروباغاندا أكثر إقناعاً
لو أن العداوة لم تستحكم بعقل القائمين على الوثائقيّ لكان بعض التوازن في محاكمة الثورة البوليفاريّة قد منحه شيئاً قليلاً من مصداقيّة ولو مخاتلة. فهو مثلاً يسجّل أن الرئيس الراحل تجاوز قنوات الإعلام التقليدي في بلاده واختار مخاطبة الجماهير مباشرة من خلال برنامج مخصص له. وتعمّد “ثورة محطمة” أن لا يذكر مطلقاً السبب الذي دفع تشافيز لذلك وهو هيمنة المعارضة شبه التّامة على كافة منافذ الإعلام المرئي والمسموع والمقروء في البلاد وكلها كانت تصدح ليل نهار في ذم الرئيس (المنتخب بالأغلبيّة) وتدعو إلى إسقاطه. كذلك اتهمه الوثائقيّ بأنّه تجاوز بيروقراطيّة الدّولة الفنزويليّة كي يجعل ممكناً تنفيذ البرامج الاجتماعية الضخمة في قطاعي التعليم والصحّة، بمعنى أن ال BBC كانت تفضّل أن تبقى الأغلبيّة على جهلها، وأن لا يجد الفقراء ما يداوي أمراضهم ما دامت البيروقراطيّة الفاسدة في مكانها. أما خاتمة الخطايا التشافيزيّة فكانت أنّه لم يعد ممكناً إدارة السياسة في البلاد مستقبلاً من دون أخذ وجهة نظر الفقراء بعين الحسبان، وكأن إيقاظ وعي الملايين على حقوقهم السياسيّة وإدماجهم في العمل العام جريمة لا تغتفر.
*الحقيقة في النصف الغائب
هناك مدرسة في النقد الأدبي المعاصر ترى أن النصوص – والأفلام الوثائقيّة مثلها – يمكن أن تقرأ من خلال المغيّب فيها لا المذكور. فالنص – أو الوثائقيّ مهما حاول إخفاء الحقيقة أو تجاهلها أو حتى قدّم نصفها أو حتى كسَرَ ظهرها، يكون بذلك يدين ذاته ويكشف عن دوافعه المتسترة بغيابها، وقد يدفع المتلقي للبحث عن الحقيقة أو نصفها الثاني في مكان آخر. هذا ما يفعله تماماً وثائقيّ “ثورة محطمّة”. ربما كان على السفارة الفنزويلية بلندن أن ترسل خطاب شكر لـ”بي بي سي” على جهودها في الكشف عن تهافت منطق الانقلاب وسوء نيّة داعميهم.
المصدر: القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|