التاريخ الماكر يرفض أن ينتهي أمريكيا: الصّين تقتحم شاشات العالم !!
بقلم : ندى حطيط ... 19.04.2019
يمكن للمراقب أن يقرأ صحة مجتمع بشري ما عبر قياسات كثيرة متفاوتة مثل مستويات التعليم والتغطية الصحيّة، أو نسب السكان حسب دخولهم، أو عدد الجامعات والأبحاث العلميّة، أو ربما معالم النهضة العمرانيّة وجودة البنية التحتيّة فيها. عند مؤرخي الثقافة الشعبيّة فإن حالة الإنتاج السينمائي والتلفزيوني في بلد ما تأتي على رأس قائمة تلك القياسات بوصفها انعكاسا كلّيا ملموسا لقدرة أي مجتمع على تنفيذ مشاريع يلتقي عليها عدد كبير من الأفراد وتتضمن طروحات فكريّة وقيماً مؤدلجة وسرديّات مشتركة قادرة على التأثير على الجمهور مع تحقيق نوع من عائد ماديّ مقبول مقابل التكاليف الضخمة. وبالفعل إذا تأملنا حال الإنتاج البصري العالمي لوجدنا انعكاساً لصورة العالم حيث هيمنة شبه تامة للعّالم الأنغلوفوني لا سيّما جناحه الأمريكيّ، مع أعمال أقل لمعاناً – وإن حملت معاني أرقى – في دول مثل ألمانيا وفرنسا، بينما تبدو الأعمال اليابانيّة مثلاً مكتفيّة بثقافتها المحليّة وليس لديها ما تودّ قوله للعالم، والأفلام الصينيّة مجرد نسخ كئيبة مقلّدة من الأفلام العالميّة، وتتسم الأفلام الهنديّة بضحالة تجعلها أقرب للأكواب الورقيّة التي تلقى جانباً بعد تجرع ما فيها من مشروب رديء، في حين ماتت التجربة الروسيّة بغياب الاتحاد السوفيتي ولم تشف من موتها ذاك بعد. وقد بقيت هذه الصيغة ثابتة لحوالي سبعين عاماً، حتى ظنّ الناس أنها طبيعة نظام الأشياء في دنيا الأعمال المصوّرة ونهاية لتاريخها وفق صيغة فرانسيس فوكوياما (في كتابه الشهير عن صراع الحضارات).
لكن التاريخ، ذلك الماكر الجليل وكأنه يرفض أن ينتهي أمريكياً. فها هو مولود الخيال العلميّ الصينيّ «الأرض المتجولة» يتفوق على كل المنتجات الأمريكيّة لهذا العام ويحقق دخلاً قياسياً تجاوز الـ 750 مليون دولار بينما لا تزال عروضه مستمرّة. وقد سارعت نيتفليكس – منصة البث الرقمي عبر الإنترنت الأكبر في العالم – إلى شراء حقوق عرضه خارج الصين ذاتها مقابل مبلغ ضخم، وهناك إقبال واعد عليه في أستراليا ونيوزلندا وكندا والولايات المتحدة وسيطلق قريباً في سوق المملكة المتحدة أيضاً.
أين كانت الصين وكيف وصلت إلى هنا؟
بينما تتخبط الولايات المتحدّة الأمريكيّة، دولة العالم الكبرى وإمبراطوريته الأعظم، في صراعات سياسيّة عقيمة بين طرفي نخبتها، وتتورط سلطتها في حروب ثقافيّة وعنصريّة لا طائل وراءها ضد كلّ ذي بشرة ليست بيضاء صافية، وتغرق أغلبية الطّبقات الفقيرة من الأمريكيين في بحور الّديون والبطالة والفقر والمرض والإدمان، عملت الصين طوال عقود منذ قيام جمهورية الصين الشعبيّة عام 1949 على امتصاص آلام التأسيس، لتبني بهدوء وبعزم لا يلين مجتمعاً جديداً انتشلت فيه ملايين الفقراء من يأسهم وجعلت منهم أكبر اقتصاد منتج في العالم أجمع مزيحاً في طريقه اقتصاد الولايات المتحدة ذاتها إلى المركز الثاني.
ظلّ الصينيون ولفترة طويلة قادرين نسبياً على عزل مواطنيهم عن تأثيرات الثقافة الأمريكيّة المعولمة التي تحمل قيماً تتعارض مع شخصيّة الصين التاريخيّة بجانب محتواها الدعائيّ الاستهلاكي المحض والمسيس. لكن هذه الأمة العظيمة تعلمت أن الانعزال خلف سورها العظيم لا يضمن لها السلامة، وراقبت بدقة التلميذ الشغوف كيف تبني الإمبراطوريّة الأمريكيّة هيمنتها على الكوكب من خلال منتجاتها الثقافيّة والاستهلاكية أولاً وأساساً وقبل أن تحتاج في بعض الأحيان إلى استعراض قوتها العسكريّة القاهرة.
اكتسبت الصين منذ العام 2000 ثقة بالنفس تليق بتاريخها العريق، فانطلقت تبني منظومة قوّة ناعمة تكون أساس استعادة نفوذ تستحقه غاب قرنين صعد خلالهما نجم الغرب وخفت نجم الشرق. منظومة القوة تلك تضم إلى جانب الاستثمارات المالية والشراكات الاقتصادية والتكاملات الصناعيّة مشروعاً متكاملاً لبناء امبراطوريّة إعلاميّة هائلة لا تغطي جمهورها المحليّ فحسب، وإنما تمتد لتقارع ثقافات العالم الحيّة داخل عقر دارها. في قلب تلك الإمبراطوريّة تتربع الأعمال البصريّة للسينما والتلفزيون.
«الأرض المتجولة» كفاءة تقنيّة، ورؤية صينيّة لمستقبل العالم
يقتحم المخرج الصينيّ فرانت جاوو بشريطه الجديد «الأرض المتجولة» فضاء الخيال العلميّ – ملعب الأمريكيين الأثير وبعد محاولات صينيّة سابقة فاشلة – ويقدّم قصّة وتقنيّة وصورة لا تقل عن أفضل إنتاجات هوليوود الكبرى في هذا المجال والتي يكاد آخرها على الشاشات اليوم (هاي لايف -2018) يتحول إلى مشروع إحراج عالميّ لا يثير شفقة أحد. لكن التقنيّة شيء، والمضمون الواثق والمعقّد والصريح شيء آخر تماماً، إذ يحكي الشريط قصّة منقولة عن رواية الأديب الصيني لايو سايشن بالاسم ذاته كانت نشرت عام 2000 وتواجه فيها البشريّة تحديّات تجعل بقاء كوكب الأرض في موضعه عرضة للفناء، ويتحتم لإنقاذ الحضارة نقله بالكليّة نحو منظومة أخرى، وهي مهمّة تعجز عنها حكومة عالميّة تنسق بين أمم الأرض وتقف أمامها عقول الذكاء الاصطناعي الضخمة عاجزة عن إبداء النصيحة. وهنا تتدخل الصين، أعظم أمم العالم قاطبة وضامنة السلام في الكوكب، ويتكمن مهندسوها الشجعان من تنفيذ المهمة المقدّسة المستحيلة بنجاح.
وعلى الرّغم من المضمون الدراميّ العميق للشريط فإن محتواه السياسيّ يبدو صارخاً وأعلى صوتاً: إن مكان الصين هو قيادة العالم، وإن عالماً تقوده هو أمل البشريّة في تحقيق السلام والازدهار. وتلك رسالة نعلم جميعاً أنها لا تأتي أضغاث أحلام ولا تخرّصات عرّافين، مع العلم بأن الصين كانت أرسلت منذ بعض الوقت أول مركبة فضائية في التاريخ البشري تهبط بنجاح على الجانب المظلم من القمر، وبدون أن تتصاعد نظريّات المؤامرة التي لا تزال تلف حتى اليوم الرّواية الأمريكيّة عن إرسال أول مركبة فضائيّة مأهولة إلى القمر.
والحقيقة أن هذه الرؤية الصينية لمستقبل العالم كما في «الأرض المتجوّلة» تمثل سرديّة متكاملة نقيضة للسرديّة الأمريكيّة التي اعتدنا عليها، ولا شكّ أن كثيرين سيرون فيها تعالياً وعنصريّة لا تقل عن تلك الأمريكيّة، لكنها ستكون بالتأكيد بمثابة نسيم عليل وتغيير محمود لمن ملّ برمجة هوليوود التي فقدت مصداقيتها أو كادت. إنه نظام عالمي جديد بديل!
تالياً: منافسة ومزاحمة نحو الأجود
لا شكّ أن «الأرض المتجوّلة» ليس إلا رأس جسر ستعبر من فوقه أعمال كثيرة على النسق ذاته سواء في مجال الخيال العلمي أو غيره. وبالفعل فإن رواية أخرى ل لايو سايشن مؤلف «الأرض المتجولة» نشرت في الولايات المتحدة تحت عنوان ثلاثيّة «معضلة الأجساد الثلاثة» وحازت على تقريض علني من الرئيس الأمريكي باراك أوباما كما مارك زكيربيرغ مؤسس فيسبوك يتم تحويلها الآن إلى فيلم سينمائي ضخم، بينما استثمرت أمازون (منافسة نيتفليكس) أكثر من مليار دولار لشراء حقوق تحويل الثلاثيّة ذاتها إلى مسلسل تلفزيونيّ. ولا شكّ أن النجاح سيجر نجاحات أخرى إذ أن «الأرض المتجولة» استدعى ميزانية 50 مليون دولار وينتظر الآن أن تعود على مستثمريها بأضعاف مضاعفة. وهو ما سيدفع هوليوود إلى قبول التحدي ورفع سوية إنتاجها لناحية التقنيّات أو المضمون إن هي رغبت بالبقاء في سوق المستقبل.
عربياً، فلا شكّ بأن الأجيال الحاليّة محظوظة لتشهد تحولاً ثقافياً بهذا الحجم، وصعوداً لسرديّات بديلة يختار منها المتلقيّ ما شاء بدلاً من أن يزدرد تفاهات هوليوود غصباً كما كان حال الجيل السابق، لا سيّما وأن الصينيين مهتمون فيما يبدو بتوفير ترجمات عربيّة لأعمالهم لأجل عيون سوق مفتوحة للراغبين تضم 300 مليون من الأفواه الفاغرة. لكن هذا التحسن مع ذلك يبقى في إطار الاستهلاك لا الإنتاج، والأخذ غرفاً بدون عطاء، والتلقي السلبيّ لا المشاركة الإيجابيّة. وهذا هو المكان المستحقّ للأمم التي تنتمي للعالم الثالث بدون أمل بالتقدّم يوماً لتنافس الدول الكبرى، لا في ساحة الإنتاج البصري ولا في غيرها.
المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|