لا تقتلوا الطفل الذي فيكم… !!
بقلم : سهيل كيوان ... 13.03.2020
عندما دخلت إلى المصرف في خليج حيفا مطلع هذا الأسبوع لعمل ما، فوجئت أن جميع الموظفات والموظفين ارتدوا البزّات العسكرية زيتية اللون، واحدة برتبة رقيب وأخرى برتبة ملازم أول، وموظف يروح ويغدو برتبة مقـــــــدّم على ما أظنّ، وآخرون من دون جنود بلا رتب، وذلك بدلاً من اللباس التقليدي لموظفي المصرف الذي عادة ما يكون قميصاً أبيض وسروالاً أسود، وفي أحيان كثيرة مع ربطة عنق، أو لباساً عادياً دون التزام بلباس الطاقم، فبدا الموظفون كأنهم في حالة حرب، وبدا المكان كثكنة عسكرية.
عندما رأيت هذا المشهد، جالت في ذهني أنظمة مظلمة يدير العسكر كل ما فيها، حتى المعاملات المدنية. في الحقيقة لم يخطر في بالي أي بلد عربي، بل خطرت في بالي تيرانة عاصمة ألبانيا، وهو بلدٌ لم أزره قط، بالتأكيد لأنني قرأت قبل أسابيع رواية للكاتب الألباني إسماعيل قادريه، فبقيت صور بعض الأمكنة المظلمة عالقة في ذهني، ومن إبداع الكاتب أن ينجح في ترك أثر ولو بسيطاً في ذهن القارئ.
لا سيطرة لنا على أفكارنا، خصوصاً في لحظات الصمت والانتظار، فهي تسرح إلى فضاءات لا نتوقعها. لوهلة، فوجئت بلباس الموظفين للبزّات العسكرية، ولكن ما فتئت أن تذكرت أنها عشية عيد المساخر (البوريم)، عندما رأيت بعض الزبائن وقد رسموا على وجوههم أقنعة ملونة.
يحتفل الشعب اليهودي في عيد المساخر أو البوريم، الذي يحكي قصة تآمر وزير في بلاد الفرس يدعى هامان على اليهود للتخلص منهم، ولكن إستير تستميل الملك أحشوريوش وتتزوجه، وبمهارتها تجعله يغيّر قراره، فتنقذ شعبها ويعاقَب هامان بإعدامه.
جلست أنتظر دوري الذي سيظهر على الشاشات المعلقة عالياً فوق رؤوس الموظفين.
جميعنا نرتدي أقنعة، قد نستبدلها من مكان إلى مكان، وبين موقف وآخر، وأمام أناس وأناس، فما زلنا عاجزين عن الظهور بحقيقة قناعاتنا وتساؤلاتنا وشكوكنا من قضايا سياسية ووجودية وحتى عاطفية.
الأقنعة ذكرتني برواية «اعترافات قناع» للروائي الياباني يوكيو ميشيما، التي بدأتُ بقراءتها منذ حوالي ثلاثة عقود ولم أنهها بعد، ما شدّني إلى قراءتها وقتها هو المقدمة أو التظهير عن الكاتب الذي انتحر على طريقة الهاراكيري أو السيبوكو، التي يقوم بها المحارب الساموراي درءاً لوقوعه في أسر الأعداء وحفظاً لكرامته. الرواية لم تجذبني لإنهائها.
نفوسنا مكتظة بالتناقضات بين طهارة وخبث وشجاعة وجبن، وحب وكراهية وغيرة وحسد وغَبْط واحترام واحتقار وتقدير وودّ وعداء، وغيرها، لكن نادراً ما نظهر حقيقة مشاعرنا، قد نُظهر جانباً منها ونبقي آخر في الظل، لأن ظهورها قد يؤذينا، وقد يضعنا في دائرة الاستهداف، سواء من قبل الأعداء أو من قبل مجتمع يُظهر لك الود طالما أنت متواطئ معه، ولكنه في معظمه سيوجه سهامه وحرابه إلى فمك وعينيك إذا ما ثغوت خارج القطيع، وذلك تعويضاً عن ضعفه في مواجهة الحقيقة، معنوياً أو مادياً، فمعظم الناس يرتاحون في إطار المجموعة التي ترتدي القناع نفسه، والكثرة تبرّر لكل واحد منهم تمسكه بقناعه، بل وقد تشكّكه في حقيقته التي يخفيها.
يكون الناس أقرب إلى حقيقتهم ومتصالحين مع أنفسهم في الأنظمة التي تحترم خصوصية وفكر ورأي كل فرد بذاته، وتقدر المختلف كما المتوافق، مهما كان بعيداً عن التيار القوي والعام، وترحّب بكل صوت ونغمة جديدة ومختلفة، فلا تعاقبُ أحداً على فكرة كتبها أو لوحة رسمها أو أغنية أنشدها.
تحتدُّ المشكلة عندما يستميت البعض في الدفاع عن قناعه، حتى يوهم من حوله بأن هذا ليس قناعاً بل حقيقة صلبة، ويغضب ويثور عندما يحاول أحدهم إسقاط قناعه عنه، لأن أسوأ ما يمكن أن يحدث حينئذ هو أن يكتشف الآخرون بأنه ليس سوى ممثل تعيس.
البعض يذهب بعيداً حتى ينصهر مع قناعه، فيبدو متصالحاً مع نفسه، وينسى حقيقته الأصلية لكثرة ما راكم فوقها من أقنعة، ولطول مدة ارتدائه القناع ذاته، فلا يعود إلى نفسه إلا نادراً جداً في لحظة صفاء في آخر الليل والناس نيام، وفي ظلام حالك يزيح القناع ليرتاح منه قليلاً، حتى دون أن يُشعرَ أهل بيته به، ليرى نفسه عارية كما هي في حقيقتها.
لهذا السبب نُفاجَأُ أحياناً في مواقف تقفز بلا منطق من النقيض إلى النقيض، وباستدارة مئة وثمانين درجة، وذلك حيث يكون القمع سيّد الموقف، فنرى شيخاً جليلاً أو داعية أو رجل سياسة يحلّل اليوم وبحماسة ما حرمه بالأمس بحرقة وحرارة واعتبره كبيرة من الكبائر، ويحرّم ما حلله ورآه عين العقل والرشاد.
الجميع يرتدي الأقنعة، ولكن للنساء في مجتمعاتنا العربية حصة أكبر، لأنهن الحلقة الأضعف التي تضطر لارتداء مزيد من الأقنعة، فهي ترتدي أقنعة أمام أخوتها ووالديها وزوجها وأمام المسؤول أو المسؤولة عنها في مكان عملها وأمام زميلاتها، إضافة إلى الأقنعة العامة، حتى أمام ذاتها عندما تحاول إخفاء التغضنات عن وجهها بقناع العسل والزبادي وقناع الخيار والكركم ومختلف الزيوت.
أكثر المتحررين من الأقنعة هم الأطفال، فالطفل يعترف بما لديه، يقول لك بأنك مملٌ، ويعترف بأنه خائف، ولا يكابر فيعترف بأنه بال في ملابسه، وبأنه جائع، وبأن هناك شخصاً ما يعتدي عليه أو يضايقه، وبأنه يريد لعبة مثل تلك التي بيد طفل آخر، ويقول لك أنا لا أحبك حتى وأنت تحتضنه.
يقول المثل «خذوا أسرارهم من صغارهم»، فالطفل يشهد بما سمع ورأى، ما لم يلوثه الكبار من خلال فرض أنفسهم عليه، وما لم يرغموه على الكذب والنفاق من خلال تربيتهم الخاطئة، وأحياناً لظروف قاهرة قد يعلمونه ويدرّبونه على ارتداء الأقنعة والكذب، مثل «رُدّ على التلفون وقل أبوي مش بالبيت».
الطفل هو صاحب الأسئلة المثيرة حول ما نعتقده بدهيّاً، أسئلة تستفز الكبار وتشعرهم بهشاشة قناعاتهم ومسلّماتهم.
كلما ابتعدنا عن الطفل الذي في داخلنا تحوّلنا أكثر فأكثر إلى مخلوقات كئيبة، منافقة، ثقيلة ظل، طفيلية، جَبانة، ماكرة.
لا تقتلوا الطفل الذي فيكم، حاولوا ما استطعتم أن تبقوا أطفالاً، فالسعادة هي التصالح مع الذات كما الأطفال، لا شك أنها مهمة مستحيلة، ولكن لا تذهبوا بعيداً بعيداً في لعبة الأقنعة، لأن العودة باهظة الثمن.
الشاشات تشير إلى الرقــــم 117، وصوتٌ أنثوي يدعو إلى دخول الموقف رقم ستة، إنه دوري، تقــــدمت من الموظفة التي ارتدت بزّة برتبة ملازم أول، لا، ما أقبح أن يتحول الموظفون إلى عساكر.
www.deyaralnagab.com
|