دوّارُ الحمار!!
بقلم : سهيل كيوان ... 07.05.2020
في المستوطنة التي أسست في العام 1965 في قلب الجليل،
يوجد دوّار معروف باسم «دوّار الحمار»، يتوسطه تمثال حديدي مطلي بالأسود، لرجل يمتطي حمارا.
تمثال جميل، محاط بالزهور الليلكية والعنّابية، ولكن القبّعة على رأس راكب الحمار تستفزني، فمن امتطوا الحمير في هذه المنطقة بالذات لا علاقة لهم بقبعات مكسيكية أو قبّعات رعاة البقر.
عندما أمرّ حول دوّار الحمار أتذكر، بمرارة، حسنة البدوية وابنها محمد وكثيرين من أبناء عشيرتها.
كانت تأتي إلى بلدتنا على صهوة أتان قويّة، تغطي رأسها وتستر فمها بكوفية سوداء منسدلة على كتفيها، غالبا تمتطي الأتان جانبيا، ترتدي ثوبا طويلا أسود، كعبا قدميها محشوران في سرموجة سوداء، على الأرجح أنها من صناعة أبي منيب الإسكاف من بلدتنا.
تكاد قدماها تلامسان الأرض، تحمل في شقّتَي الخُرجين دلاء من الألومنيوم الممتلئة بالحليب.
كانت حسنة البدوية تعرف كنية ربّة كل بيت في بلدتنا، وأسماء الكبار من أفراد الأسرة، تعرف من تزوّج ومن رُزق بطفل جديد ومن خطب ومن توفي ومن تعاني ضنك عيش، ومن مرضت، ومن ترمّلت، ومن يعاني زوجها من عرق النّسا.
زوجها أبو محمد يظهر فقط في المناسبات، مثل فرح أو عزاء، يعتمر كوفية مرقّطة بالأحمر، أحيانا مع عقال، تحيط برأسه وصُدغيه وفمه، فتبدو كإطار لعينيه اللامعتين كحبتي زيتون طازجتين، وأنفه النحاسي النبيل، ولشاربيه الأسودين المنتصبين كحمأتي عقربين.
انضم ابنها محمد إلى مدرستنا وصار زميلا لنا في الصف.
كان محمد يمشي بضعة كيلومترات كل يوم، في رحلتَي المجيء والإياب.
في الشتاء، يدخل غرفة الصف متأخرا، والماء ينقط من شعره وأنفه وذقنه، يضم محفظة من القماش إلى صدره، فيها كتبه ودفاتره، مبتسما ابتسامة نصر خجولة احتفاء بوصوله، فيحظى بتعاطف المعلمين والطلاب، ويؤذنُ له بالدخول إلى الحصة.
لسبب ما، كان لدينا نحن الطلاب إجماع بأنه ذكي جدا، دون إثباتات واضحة لهذا الانطباع، فاشتراكه في الحصص كان عاديا جدا، بل أقل من عادي، ولكننا أحلنا عليه ما تعلمناه في دروس الأدب التي تتحدث عن ذكاء الأعراب وفطنتهم، فإذا تحدّث الدرس عن ذكاء إعرابي، أو كان عنوانه «قصة الأصمعي مع الأعرابي» نظرنا إليه بأطراف أعيننا، كأنه هو الذي أفحم الأصمعي.
في الربيع، نمشي بضع كيلومترات، نلهو في الطبيعة، حتى نصل حي الصفيح وبيوت الشعر، ونزور محمد.
تخرج الخالة حسنة من الخباء مرحّبة، وضرسها الذهبية تلمع مضيئة مع ابتسامتها.
تسألنا عن أسمائنا ووالدينا، وهي تبش لكل واحد فينا، فتعرفُنا واحدا واحدا، نتبعها عشرات الخطوات إلى الجهة المقابلة من الخباء، تنحني على قربة مصنوعة من جلد الماعز، معلقة بين عمودين خشبيين، تخضّها قليلا، ثم تغرف منها في كوب من الألومنيوم، وتسقينا واحدا واحدا، فنرتوي بعد عطش.
نقضي النهار بين الصخور والشّعاب مع الماعز والكلب وبضع غنمات. ما من عشبة إلا ونجد فيها جزءا يؤكل، نمضغ بتلات زهرة قرعة سيدي وعين البقرة، وسيقان السنارية، والخس البري، والقرصعنة، والذّبَح، والشومر البرّي، وحبّ البُطم والعَرقد والزعرور، وقرون السّيسعة والصّيبعة، ونخشى أن نأكل تفاح المجانين خشية أن نصاب بالجنون، ولكن نحتفظ بواحدة لنستنشق رائحتها العطرية.
نعدو في الشعاب بين النرجس وعصا الراعي وإكليل الجبل، يقفز أرنب ويفرّ سرب حجل، ومن بعيد يراقبنا ابن آوى بحذر.
هناك رأيت لأول مرة في حياتي امرأة تدخن الغليون، نحيلة وباسقة، تلف رأسها بعصابة، تطل من عليائها إلى الأفق بعينين صغيرتين حادتين، كأنها نسر يوشك أن يقلع إلى الفضاء.
اتسعت المستوطنة وصارت مدينة، زحفت نحو حسنة وعشيرتها، وطالبتهم السلطات بإخلاء المنطقة.
بدأت مفاوضات مع مندوبين من الحكومة، المفاوضون لا يعنيهم سوى أمر واحد ووحيد، إخلاء المنطقة، وأن يبحثوا لهم عن مكان آخر، لأن المدينة تمتد غربا، ولا يجوز أن يبقى حي من التنك وبيوت الشعر وزرائب الماعز في مدينة، هي درّة الاستيطان في الشمال.
فاوضوهم في قاعات المحاكم والغرامات المُبهظة ومصادرة الماعز، ثم بالجرافات والشرطة والهراوات.
رغم نشاطات محلية وقُطرية وتظاهرات وتجمعات خطابية وعمل عدد من المحامين وجولات محاكم كثيرة، لم يرض ممثلو المدينة أن يكون بعض العربان حيا منها، وأن يصبحوا من مواطنيها ولو اسميا، وكانت حجتهم الاختلاف الثقافي، ففي المستقبل قد تطالبون بمدرسة وبمسجد وغيرها.
أذكر ممثل أهالي الحي وهو يقول أمام الصحافيين: لم نطلب شيئا منهم، لا ماء ولا كهرباء ولا إسفلت ولا جمع نفايات، ولا مساعدات، ولا دعما حكوميا، ولا دعما من وراء البحار ولا من داخلها، كل ما نريده أن نبقى في أرضنا التي ورثناها عن أجدادنا، وإذا كان التنك والشّعر لا يليق بمدينة، فليسمحوا لنا ببناء بيوت ثابتة من الإسمنت والطوب، على أرض أجدادنا وقرب أضرحتهم.
اقتلعت بيوت الصفيح وحظائر الماعز، تشتت العشيرة في بلاد الله الواسعة، ارتفعت على أطلالهم بيوت خاصة، وعمارات شاهقة، وشوارع معبدة، وحانات.
من يمر بين عماراتها تُشعره اللغة والموسيقى أنه في ضواحي بطرسبورغ، نتاشا وجينيا وإيلينا وتسفييتا ونيكول وبوريس وإيفيت وإيزاك ويفچيني وأندريه ومارك وغيرهم.
لا أعرف كم من الناس مثلي، عندما أمرّ من هناك أرى حسنة على أتانها، وضرسها الذهبي يلمع في الشمس، أشم رائحة الحليب الطازج وثوبها المعطّر بالميرمية والزعتر والفيجن.
أين محمد ووردة ونوخة وزعل وحسين وعلي وعليا، أين جليلة وثريا، وينك يا عمّي أبو حسين ويا أم علي، وينك يا خَظرة، وينك يا دلّة أين غليونك؟
رحّلوهم، وأقاموا في مكانهم حيّا فيه دوّارٌ، يتوسطه تمثال لحمار يمتطيه رجل بقبعة مكسيكية.
www.deyaralnagab.com
|