الصَّداقةُ الأخيرةُ على الكرة الأرضية…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 14.01.2021
في مطلع الشَّباب، يحتار الإنسان في عدِّ أصدقائه، هل هم خمسة أم عشرة أم عشرون، وكلما تقدَّمت به السِّن، كَربَلت الحياةُ وغَربَلت، حتى لا يبقى منهم سوى واحد، وحتى هذا الوحيد يكون في حالةٍ من التأرجح والعثَرات.
عندما وصل المشيِّعون إلى المقبرة، صلّوا على المَيْت، ثم رفعوا النعش على الأكتاف، مشوا بحذر بين القبور، حتى وصلوا الحُفرة المحاطة بالتراب الرطب.
جرى هذا في المقبرة القديمة في وسط البلدة، فوصيّة المرحوم هي بأن يدفن في القبر الذي دُفن فيه صديقٌ قديمٌ له، لهذا كان على عائلته تفكيك الضَّريح القديم، والحفر بالمعاول والرُّفوش، لأن الجرّافة الصغيرة لا تستطيع الدخول كما هو الحال في المقبرة الجديدة، ثم جمعوا الرُّفات كلها في كومة، تتوسطها الجمجمة.
كانت قد ربطتهما صداقة متينة أثناء عملهما معاً كحمّالَيْن في ميناء حيفا حتى النَّكبة، وكان هذا الشاب مثل كثيرين، جاء من حوران للعمل في الميناء، وقُدَّر له أن يتزوّج واحدة من بنات البلدة، ويستقرَّ فيها، ولهذا كان معروفاً بأنه عبد الحوراني.
انتهى عملهما في الميناء منذ النكبة، ثم عملا معاً في مقالع الحجارة وفي شق الطُّرق، وغيرها من أعمال شاقة، وكانا شريكين في السَّراء والضرَّاء، يتقاسمان التعب واللقمة والابتسامة والدّمعة.
رحل عبد الحوراني في عقدِه الرابع، وحزن عليه صديقه حزناً شديداً، وأعلن فوق جثمانه وهو ينشِجُ: يا أهل بلدي، يا أهلي، لقد كنت قد اتفقت أنا وصديقي عبد، أن نُدفن في القبر نفسه، وشاء الله أن يسبقني إلى القبر، فرجاء لا تنسوا، هذه هي وصيتي لكم، عندما يحين أجلي، ادفنوني في القبر نفسِه.
مرَّت عقود، وما زال يُذكّر بوصيته، خصوصاً عندما يمرض، أو يتعرض إلى حادث، حتى الجيل الجديد من الأسرة صار يعرفها.
شعر أبناء وأحفاد المرحوم براحةٍ كبيرة وباعتزاز وهم ينفذّون وصية الوالد والجدّ، ولكن ما إن همّوا برفعه من النعش لإنزاله إلى الحفرة، حتى سمعوا أحدهم يقول: لحظة يا جماعة!
كان المتحدث هو الأستاذ المؤرِّخ الدكتور صُبحي.
نظر الأبناء والأحفاد والمشيِّعون إلى الأستاذ، وقد ظنّ البعض بأنه سيلقي كلمة ما في حق الرجل.
قال الدكتور: عندي أمانة من المرحوم أبو فوزي، وأرى من واجبي أن أقولها الآن، لأنه لا يصلح تأجيلها إلى ما بعد الدفن!
الجميع يعرفون علاقة الأستاذ بوالدهم، رغم فارق السِّن الكبير بينهما، فالمؤرخ استشهد بكثير من القصص الشفوية عن النكبة من المرحوم، ودوّنها في كتاب له ضمن شهادات كثيرة.
تفضل يا دكتور صبحي ما هي الأمانة؟
أوَّلاً وكما تعرفون، كانت وصية المرحوم بأن يدفن مع صديقه ورفيقه عبد حوراني!
هذا ما فعلناه والحمد لله، فهذا هو ضريح صديقه، وهذه هي عظامه.
المرحوم أضاف إلى الوصية بنداً آخر!
تفضل يا أستاذ.
بصراحة، لقد أوصاني بأن يدفن فوق البلاطة وليس تحتها، ورأيت من واجبي أن أخبركم بالأمر، هذه أمانة، وأنتم تقرِّرون المناسِب.
نظر الأبناء إلى بعضهم بعضاً في حيرةٍ: فوق البلاطة؟ ليش يعني؟
نعم فوق البلاطة وليس تحتها.
العادة أن يُمدّدَ الجثمان في القبر على التراب، وأحياناً يفرشون أرضية القبر بأغصان من الميرمية، ثم يُمدِّدونه عليها، ثم يفكّون عقدة الكفن، ويجعلون وجهه إلى القِبلة، ثم يَصُفّون عدداً من البلاطات من فوقه، ويجبلون قليلاً من التراب، يسدّون به الشقوق الصغيرة بين البلاطات، ثم يهيلون التراب عليه وهم يذكرون الله.
ولكن لماذا فوق البلاطة؟ تساءل أحد أبناء المرحوم.
هذه أمانة يا جماعة، وقد ذكّرني بها أكثر من مرة، أثناء لقاءاتي الكثيرة به.
لعلَّه لم يكن في كامل قواه العقلية عندما أوصى بهذا، فأنت تعرف ما حدث للمرحوم في الفترة الأخيرة، يعني صار يخربط.
هذه الوصيّة، ردَّدها أمامي أكثر من مرة، وهو في كامل قواه العقلية.
«يا جماعة، لا فرق، ندفن كالعادة» قال فوزي ابنه البكر.
ولماذا؟ بل يجب أن نلتزم بوصية الوالد كُلِّها، يريد فوق البلاطة، فليكن فوقها، ما دام أنه ليس مخالفاً لشرع الله. قال أحد الأبناء السِّتة.
ردَّ الكبير: الوصيّة يعرفها الجميع، بأن يُدفن على صاحبه وصديق عمره، أما فوق البلاطة؟! فهذا لم أسمع به.
الأستاذ لم يأتِ بهذا من جيبه.
لم أقل هذا لا سمح الله، ولكنّه أمرٌ مُحيِّر، لم يذكر هذا أمامي ولا مرَّة، أخشى أن يكون قد قالها أثناء بداية مرضه.
وحِّدوا الله يا جماعة، فوق البلاطة أو تحتها ما الفرق؟ تهامس أكثر من واحد.
صحيح لا فرق، لكننا احترمناه في حياته، ولن نخذله في وصيته الأخيرة، فليكن فوق البلاطة.
قال رجل قريب من الأسرة: يا جماعة، لا وقت للنقاشات، هنالك ضيوف ينتظرونكم.
العادة هي وقوف أهل الفقيد في صفٍّ خارج المقبرة لتقبّل تعازي القادمين من خارج البلدة. أما الآن، وبسبب وباء الكورونا، فقد صار معظم أهل البلدة يقدّمون تعازيهم في المقبرة مثل الضيوف، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف.
لا مشكلة، ندفنه فوق البلاطة، ولكن ماذا مع عظام صديقه؟ هل نعيدها تحت البلاطة أم نضعها فوقها؟
قال الأستاذ المؤرّخ: طبعاً فوق البلاطة، كي لا يبقى حاجزٌ بينهما.
كان أبو يعقوب، الرجل المعروف بأنه المتطوِّعُ المواظب على مرافقة موتى البلدة من الذكور خلال الدفن، واقفاً فاسخاً ساقيه على جانبي الضريح، مستعداً لتنفيذ ما يُطلب منه.
ثبّت البلاطات بالتَّرتيب المعهود في قعر الحفرة وسد الثغرات بالطين كالعادة، ثم طلب الجثمان، فأنزلوه حسب توجيهات عدد من الحضور.. «الرِّجلين بالأول..الرِّجلين بالأول..أيوا هيك، الله يرضى عليك، على مهلك، والآن أنزِلوا الرأس».
حلَّ المُتطوِّع عقدة الكفن من حول الرأس، ثم أماله نحو القبلة، ثم وضع الجمجمة القديمة وراء الرأس ووجَّه مقدِّمتها إلى الاتجاه نفسِه، ثم أمسك بيد أحدهم وخرج، وما لبثوا أن بدأوا بإهالة التراب على الصَّديقين.
أثناء هذا، بدت لي جمجمة عبد حوراني مُرحِّبةً بالصديق القديم، وبدا أبو فوزي كأنه ابتسم وقال: «ها قد تحقّقَ ما اتفقنا عليه يا صديقي» وانتابني شعورٌ غريبٌ، بأنها الصّداقةُ الصّادقة الأخيرة على وجه الكرة الأرضية، وقد دُفِنت معهما.
www.deyaralnagab.com
|