رصاصٌ وزهور…
بقلم : سهيل كيوان ... 28.01.2021
كنت وصديقاً حول الموقد في بيته، إنه مثلي لا يحتفل بيوم ميلاده، ورغم ذلك، فقد اعتبرنا كوب الشاي مع النعناع والكعكة احتفالاً، وبما أنّه منفصلٌ عن والدة أبنائه، فقد راح يحدِّثني بفرح عن علاقة جديدة مع سيدة في مثل وضعه، وعن أفُقٍ لا بأسَ به.
فجأة سُمع أزيز إطلاق نار من سلاح أوتوماتيكي في مكان قريب، الشارع ما زال مكتظاً بالمارة.
إنها ثلاث صليات، واضح أنها بندقية أوتوماتيكية.
– إنّه حقيقي وليس مفرقعات.
تعيش بلداتنا العربية تناقضات غريبة، من جهة إطلاق نار وابتزازات من كل صنف ولون، قد تصل إلى إراقة الدماء والقتل، ومن جهة أخرى يقترب آلاف الطلاب من الحدِّ الأقصى الذي يمكن تحصيله في امتحانات السيكومتري، ومُفرقعات بمناسبة تأهيل أفواج جديدة من الأطباء والممرضين وغيرهم من الخرّيجين من مختلف المهن، أو فرقعة وصراخ يطلقه أنصار فريقٍ لكرة القدم في آخر الدنيا.
قال صديقي: يا رب، أن لا تكون إصابات.
إطلاق النار في ساعات المساء صار جزءاً من المناخ الصوتي الليلي في معظم البلدات العربية.
قال متذمِّراً: إلى أين سنصل؟ لقد خرب مجتمعنا، تدمَّر!
-لا، لا تقل هذا، مجتمعنا ليس شرّيراً، هذا العنف دخيلٌ علينا، انتبه، ففي الوقت الذي يطلق أحدهم النار على سيارة ويثقب أبوابها وإطاراتها، تدور سيارة أخرى فيها متطوِّعون ينادون بمكبر صوت، ويشحذون الهِمَم، هل تسمع؟ «لا ينقصُ مالٌ من صدقة» إنهم يدعون الناس إلى التبرِّع للمنكوبين في شمال سوريا، والناس في بلداتنا كرماء.
-صحيح، ولكن العنف زاد عن حدِّه، سوف ينهار مجتمعنا..
-يا عزيزي، رغم كل هذه الرِّيح التشاؤمية، لا تنس الجوانب المضيئة، خذ مثلاً وليس حصراً، لقد أصبح توزيع المنح الدراسية على الطلاب الجامعيين عادة حسنة، منذ عقود طويلة في كل بلدة من بلداتنا، وهذا صار يزداد عاماً بعد عام، ويشارك فيها عددٌ كبير من الجهات، المجالس المحلية والبلديات بالتعاون مع هيئة اليانصيب القطرية، وجمعيات خيرية وثقافية فعَّالة في كل بلدة، محلية وقطرية، ولجان زكاة، وغيرها، يوزِّعون آلاف المنح الدراسية على الطلاب في كل عام، وعلى الأسر المحتاجة، ومختلف أعمال الخير، نحن طيِّبون، أقسم بالله إننا لسنا المجرمين الذين يبتزّون ويدمّرون.
قال وقد بدا متكدِّراً: أغلب الظن أنه تحذير موجّه إلى شخصٍ ما، سيتبعه بعد يومين أو ثلاثة أيام إطلاق نار على زجاج نافذة، أو باب مدخل بيت، فمن عساه يكون هذا المستهدف؟
-هنالك تشكيلة واسعة من الاحتمالات، قد تكون محاولة ابتزاز لأحد التجّار أو الميسورين، أو أن يكون أحدهم مديناً ومتورّطاً مع «السّوق السوداء» وقد تكون هذه حسابات شخصية مما لا يخطر على بال أحد، عاطفية مثلاً، ولكن هذا نادرٌ جدًّا.
فقال: وأضف إلى هذا، خلافات لم تكن ظاهرة حتى قبل سنوات قليلة، خلافات على ميراث الأرض، أحدهم طالَب أخواله بحصة والدته من ميراث جدّه وجدَّته حسب شرع الله، ولكنهم تنكّروا له، قسموا الميراث بينهم وتجاهلوا والدته، وهو بحاجة ماسّة، مثل أكثر الناس، ذهب إلى المحكمة المدنية، وعن طريق محام، أعطته المحكمة أكثر مما طلب من أخواله! وطبعاً نشأت عداوة لم تكن في الحسبان بين الأخوال وابن شقيقتهم، بسبب التغاضي عن نصيب الأنثى من الميراث، والعداوة تجرُّ العُنف.
قلت: الغريب أن بعض المسلمين يتمسَّك بالفرائض بحذافيرها، ثم يغض الطَرف عن هذه الفريضة بالذات، الأمر الذي يضع كل التزاماته الأخرى في موضع الشَّك.
-لا تنس كذلك أنه قد يقف وراء إطلاق النار أحدُ الموعودين بوظيفة لزوجته أو لابنه في المجلس البلدي، ما لم يف المسؤول بوعده، عادة ما تتم التسوية بترتيب وظيفة جديدة في أحد الأقسام، أو تعويضه بشكل أو بآخر من خلال عمل ما! طبعاً، لا أحد من هؤلاء يطلق النار بيده مباشرة، لأجل هذا يوجد مقاولون، إنها طلبية مقابل مبلغ متّفق عليه من المال، مثلما يوصلون لك البيتزا أو وجبة الطعام إلى البيت، عصابات الإجرام تُشغِّل بعض الشبان الضائعين بين سموم وبطالة وشبه أميّة ومشاكل أسريّة، مقابل إغراء مالي، ولكل درجة أذى توجد تسعيرة. للأسف، لقد كنا مسالمين وطيّبين جدًا حتى قبل سنوات قليلة، حتى عنفنا كان ساذجًا وبسيطًا، لم يصل إلى درجة إطلاق النار والقتل، كانت أسلحتنا من حجر صوّان أملس، أو دَبَسة وسكينة كبّاس، أو الاكتفاء بتوكيل الله في المظلومية.
-صحيح يا عزيزي، لو أحصينا ضحايا العنف في مجتمعنا منذ النكبة عام 1948، حتى نهاية القرن الماضي، لما عادلت جرائم عام واحد من هذه الأعوام اللّئيمة.
قال: سقى الله كيف كان الناس، يتعاونون في أعراسهم وفي صب أسطح منازلهم، وكيف كانوا يشعرون بمآسي بعضهم، كالبنيان المرصوص، حتى إذا مرضت بقرة أحدهم كانوا يتضامنون معه.
-وما زلنا كذلك يا صديقي، يشارك بعضنا بعضاً في الأفراح وفي العزاء، ونتألم لآلام بعضنا، ولدينا متطوّعون وأهل خير في كل مجال ومجال، وما زال شبابنا أصحاب نخوة كبيرة، إياك والظنّ بأن هذه العصابات ستنتصر على أبناء وأحفاد من صمَدوا بعد نكبة عصفَت في المنطقة كلها، وعرفوا سني الحكم العسكري، وحافظوا على أنفسهم وتمسّكوا بجذورهم رغم كل الهزائم المريرة، لن تهزمهم عصابات إجرام تافهة.
رنَّ هاتف صديقي، وعندما فتح الخط، كان هناك من قال له: معي طلبية لأجلك، اخرج من فضلك لأخذها…
استغرب صديقي، فهو لم يطلب شيئاً، خرجنا معاً لنرى ما الخطب؟
تقدّم شاب في ساحة المنزل وسأله: حضرتك فلان..
-نعم، أنا برأسه..
رجع الشاب إلى سيارته ثم عاد وفي يده باقة من الأزهار الحمراء، تفضل، استلم..
-ممن هذه؟
– لا أعرف، لست سوى رسولٍ..
عدنا إلى جانب الموقد، نظر إلى البطاقة المثبتة على الورق الذي لُفت فيها باقة الزهور: «أتمنى لك العمر المديد والصحة والسعادة والحبّ».
-من المرسل؟ سألته بفضول…
-لا يوجد اسم للمرسل، لكنني أستطيع التّخمين ممن هذه الزهور، وأضاء وجهه بالفرح من جديد.
www.deyaralnagab.com
|