جدلية العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة عرب ال 48. *الجزء الأول
بقلم : د.عامر الهزيل ... 11.02.2021
في البداية لا بد من التنويه هنا انه لا يمكن التطرق لهذا الموضوع الشائك بمعزل عن مراحل الاحداث التي عاشتها الثورة الفلسطينية والعلاقة المتبادلة بينها وبين قيادة عرب ال 48 في كل مرحلة.
منذ سبعينيات القرن الماضي وضعت منظمة التحرير الفلسطينية بين فكي كماشة. الأول كان الاتحاد السوفيتي وحليفه اليسار العربي وخصوصاً الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين, اليسار السوفيتي داخل فتح والحزب الشيوعي الإسرائيلي "راكح" صاحب الدور الكبير في اقناع اليسار الفلسطيني بحل الدولتين بدعم من الاتحاد السوفيتي. والمطلب هنا قبول منظمة التحرير بمنطق الاتحاد السوفيتي والحزب الشيوعي الإسرائيلي بأن المشكلة لا تكمن في كون إسرائيل دولة احتلال بل لأنها أداة للإمبريالية. وعليه اشترط الاتحاد السوفيتي علاقته مع منظمة التحرير بموافقتها على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة مع انسحاب إسرائيل الكلي الى حدود ال 67 والسلام مع اسرائيل.
الفك الثاني إسرائيل, أمريكا ومن معهم. في هذا السياق كانت قناعة هنري كسنجر وزير الخارجية الامريكية انه من الوهم التفكير في حل نهائي للصراع العربي الإسرائيلي. وهو لا يخفي ان هذه الرؤية تطابق مفهوم إسرائيل للصراع على انه صراع وجود وليس حدود. وكهذا لا ينتهي في نقطه الا لينفجر مجدداّ واعنف. وعليه , بحسب كسنجر, يجب ادارته وتقييمه في كل مرحلة لتنفيسه اذا امكن بالدبلوماسية والا بالضربات العسكرية. لهذا السبب توافق أمريكا إسرائيل ان حدود امنها نهر الأردن.
في هذا السياق شكلت منظمة التحرير الفلسطينية اكبر تحدي لأمريكا بعد موت جمال عبد الناصر لخطورة رصيد القضية الفلسطينية الذي هدد بخلق الثورات وقلب الأنظمة العربية الحليفة لأمريكا على حد تعبير الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون. وعليه كانت الخيارات الاستراتيجية بين القضاء على منظمة التحرير او ترويضها لتصبح جزء من المشهد العربي بعد كسر بندقيتها ونزع فتيل خطر تعريبها. في سياق هذه الرؤيا نشطت الدبلوماسية السياسية والعسكرية الامريكية-الإسرائيلية والعربية الحليفة وتكثفت بعد حرب أكتوبر1973 بشكل خاص.
هكذا التقيا فكي الكماشة عالمياً واقليمياً على م.ت.ف بعد ما حاولت تجاوز نتائج حرب أيلول الأسود في الأردن ورحيلها الى لبنان. وبشكل خاص بعد رفضها مشروع روجرز الذي وافق عليه جمال عبد الناصر قبل وفاته في أواخر سبتمبر 1970. وفي سياقه أصدرت موقفها الرافض لكل الحلول السلمية مؤكدة على تمسكها بلاءات قمة الخرطوم لا صلح, لا اعتراف ولا مفاوضات. وعللت رفضها لمشروع روجرز كونه يحصر القضية الفلسطينية في حدود ال 67 متغاضياً عن فلسطين ال 48 مبرر انطلاق الثورة وشرعية وجودها على الأطلاق.
غير ان هذا الموقف بدأ يتغير مع تسويق السادات كبطل للأمة العربية بعد حرب أكتوبر. خصوصاً ان وجهته كانت للسلام مع إسرائيل بوساطة أمريكية لأن أمريكا تمتلك 99% من أوراق الحل وهي جادة في حل شامل على حد تعبيره.
لإقناع عرفات بمدى جدية حل الدولتين الذي نادى به بأعلى صوت الحزب الشيوعي الإسرائيلي قيادة عرب ال 48 منذ النكبة, جاءت المناورات الامريكية والعربية ,قبل انعقاد مؤتمر جينيف , مغرية الى حد التصديق ان الدولة الفلسطينية المستقلة في أراضي ال 67 قاب قوسين وادنى. في هذا الدسم كان سم كسنجر صاحب استراتيجية الركيزتين. الركيزة الأولى نقل الثورة خطوة خطوة من موقع الخنادق للفنادق وحلم تحرير فلسطين وإقامة الدولة الديمقراطية الواحدة بين النهر والبحر الى الحكم الذاتي في اقل من حدود ال 67 موقف إسرائيلي طرحته خطة الون شهر بعد هزيمة حزيران 1967.
هنا وافق كسنجر إسرائيل والملك حسين على أن أي دولة فلسطينية بين الأردن وإسرائيل برصيدها الثوري وبعدها العربي تعتبر خطر داهم على إسرائيل والأردن والأنظمة الحليفة في المنطقة. وعليه دعم كسنجر لاءات رابين واستراتيجية إسرائيل بقدر ما تُنهك م.ت.ف الضربات العسكرية ستلين سياسياً .
الركيزة الثانية هي فلسطنة القضية ومأسسة منظمة التحرير وبنفس طويل. بمعنى تجفيف عمقها العربي وعزلها عنه بنزع فتيلها الثوري التعبوي الذي يشكل حطب للثورات وقلب الأنظمة الحليفة. ولكي يشكل مؤتمر جينيف جسر عبور بشرعية عربية لمحادثات ثنائية بين مصر وإسرائيل, كان لا بد من طمأنة م.ت.ف بجدية التوجه الأمريكي بوعدها انها ستكون في الصورة بعد انعقاد المؤتمر مباشرة بحسب صلاح خلف (أبو اياد). ولتطمأن منظمة التحرير اكثر جاء مؤتمر القمة العربية في الجزائر في 26.11.1973 ,قبل مؤتمر جينيف , بقرارات الفلسطنة التالية:
ا" تحديد الهدف المرحلي للامة العربية واعتماد منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا وحيدا للشعب الفلسطيني. ويقرر المؤتمر اهداف المرحلة للنضال العربي المشترك كما يلي:
التحرير الكامل لجميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967.
تحرير مدينة القدس.
الالتزام باستعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني , وفق ما تقرره منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني." قرار اكد عليه مؤتمر الرباط فيما بعد.
شمعون بيرتس اكد ان إسرائيل وامريكا كانوا على علم بنية اخذ هذا القرار في الجزائر. لأن أمريكا كانت تهدف لضمان سكوت منظمة التحرير حتى تمر من جينيف لمفاوضات ثنائيه مصرية إسرائيلية. مؤكداً ان اسرائيل لم توافق على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. إسحاق رابين بدوره قال: هذا ما كان يلزم كسنجر لتمديد وتأجيل قضية الضفة الغربية في مؤتمر جينيف وبعده. لهذا طرح الخيار الأردني بالنسبة لنا لم يكن حل بل تكتيك.
ثم شدد القول : قرارات الجزائر والرباط سهلت المهمة على إسرائيل ان لا تفاوض مع الملك حسين على الضفة.
بدوره حاول الاتحاد السوفيتي ومعه الأحزاب الشيوعية اقناع عرفات, قبل قمة الجزائر, بقرار التقسيم 181 كأساس للمفاوضات في جينيف بهدف إيجاد اجماع عربي يعزل أمريكا ومصر في مؤتمر جينيف. الا ان عرفات كان مطمأن للتحرك الذي سيرضي السوفييت ايضاً.
وفقاً للخطة عقد مؤتمر جينيف في 21.12.1973 وكان بالفعل جسر عبور للمفاوضات الثنائية بين مصر وإسرائيل والتي قادت لزيارة القدس واتفاق كامب ديفيد. وبحسب أبو اياد بعد ما تبين ان هدفه محادثات ثنائيه بين مصر وإسرائيل فقط بدا النقد والتحرك ضد المطروح. مع هذا اتخذ عرفات قراره بفتح الحوار مع اليسار الإسرائيلي وتكثيفه مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي كهمزة وصل.
طبخة نضجت بنكهة انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني الثاني عشر - الجزائر في شباط 1974 وإقرار النقاط العشر ما عرف بالبرنامج المرحلي لإقامة الدولة المستقلة. بهذا اسقطت المنظمة لاءات الخرطوم في الوقت التي أبقت إسرائيل على لاءاتها. جبهة الرفض لهذا التوجه عللت موقفها بقولها: ان الخبراء الإسرائيليين والامريكيين يجزمون القول ان لا مجال لبقاء إسرائيل الا اذا انتفى كونها فلسطين في اذهان العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً ويشاركهم هذا الرأي من موقع الدعم دعاة السلام الإسرائيليين بما فيه الحزب الشيوعي الإسرائيلي الداعي الى إقامة دولة فلسطينية بجانب إسرائيل.
في هذه المرحلة تعمدت دول الخليج بإغراق منظمة التحرير بسيل من البترودولار لجرها اكثر لنهج التسوية وافسادها روحاً ومسلكية. وبنزق وحماس ووهم البرجوازية الصغيرة شرعت منظمة التحرير بمأسسة (الدوله في الطريق) بإقامة بيروقراطية دولة الفكهاني في لبنان التي تمددت وتحولت الى مركز نفوذ ينافس قصر الرئاسة في بعبده. رئيس دولة الفكهاني ياسر عرفات اصبح "الكل بالكل" على طريقة الأنظمة العربية وكهذا ما أمر به نفذ ووجهته كانت للحل السلمي الذي فتح له باب ومنصة الأمم المتحدة في خطابه الشهير أواخر عام 1974.
بأمر منه نشط سعيد حمامي, عز الدين قلق, نعيم خضر وعصام السرطاوي في التواصل مع الحزب الشيوعي وغيره من الإسرائيليين. وكرر حمامي ما نشره في التايم اللندنية عشية انعقاد مؤتمر جينيف بأن منظمة التحرير مستعدة للاعتراف بإسرائيل مقابل الانسحاب الى حدود 1967 وكذلك جاهزة للمفاوضات على أساس الاعتراف المتبادل بين دولة إسرائيل وفلسطين. دعم لهذا التوجه كان لقاء السرطاوي مع الجنرال المتقاعد ماتي بيلد واوري ابنيري ولقاءات مكثفة مع قيادات الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي كسب مصداقية وطنية اكبر ببروز دور المناضل توفيق زياد في تفجير يوم الأرض عام 1976.
ليتوضح التوجه اكثر أوصى المجلس الوطني في دورته الثالثة عشر عام 1977 ضرورة التنسيق مع القوى اليهودية الديمقراطية والتقدمية التي تناضل ضد الصهيونية وعلى رأسها الحزب الشيوعي كقيادة لعرب ال 48.
ترجمة لهذه القرارات التقى المجلس المركزي لمنظمة التحرير في نفس العام بوفد من الحزب الشيوعي الإسرائيلي وصدر بيان مشترك اكدوا فيه الطرفان على "تبادل وجهات النظر حول قضايا النضال المشتركة وسيكون هذا اللقاء فاتحه للعمل العلني مع القوى التقدمية والديمقراطية الأخرى في إسرائيل." بهذا تبنت منظمة التحرير موقف الحزب الشيوعي ان إسرائيل دولة عرب ال 48 الطبيعية والرسمية ونضالهم مدني صرف من اجل العدالة والمساواة وعليهم من موقعهم دعم منظمة التحرير في مطلب إقامة الدولة المستقلة في مناطق ال 67. تجديد اعتبره الحزب الشيوعي انتصاراً لموقفه التاريخي الداعم للسلام وتقسيم فلسطين.
في هذه المرحلة تعاظمت قوة وتأثير منظمة التحرير وكذلك معارضتها للمحادثات الثنائية بين مصر وإسرائيل الأمر الذي استوجب ضربها عسكرياً لإجبارها اكثر واكثر على المشي في طريق السلام وعدم عرقلة تقدم المسار الإسرائيلي المصري. لهذا الغرض اشعلت الحرب الأهلية في لبنان والتي اقحمت فيها منظمة التحرير حليفة للقوى الوطنية في وجه الكتائب حليفة إسرائيل.
كذلك بعد معارضة منظمة التحرير لزيارة السادات اسرائيل 1977, اصر التحالف الامبريالي الصهيوني على توجيه ضربات عسكرية قاضية لها ودولتها الفكهاني. وعليه كان الاجتياح الإسرائيلي (عملية الليطاني) لجنوب لبنان في شهر اذار 1978 وبعده في سبتمبر 1978 وقع اتفاق كامب دفيد. في سياق هذا الاتفاق عرض مناحيم بيغن خطة الحكم الذاتي للفلسطينيين.
رغماً عن ذلك تكثفت جهود عرفات للسلام ببعث الرسائل عبر الوسطاء بالتواصل مع اليسار الإسرائيلي وعلى رأسهم الحزب الشيوعي بحلته الجديدة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة. غير ان لإسرائيل وحلفائها كان قرار بتوجيه ضربة كسر ظهر لمنظمة التحرير في بيروت.
لهذا الهدف كان اجتياح لبنان في 6.6.1982 بقيادة وزير الدفاع آنذاك اريل شارون. وهذه المرة احتلت اسرائيل بيروت وحاصرت عرفات وكل قيادات منظمة التحرير. تحت الحصار والقصف الوحشي لبيروت اعلن عرفات في 25.7.1982 عن قبوله بكل القرارات الدولية المتعلقة بفلسطين وبعدها ب 4 أيام وافق على خطة الجامعة العربية لوقف القتال والانسحاب من بيروت التي استكملها المبعوث الأمريكي فليب حبيب باتفاق امريكي لبناني فلسطيني في 7.8.1982 بانسحاب اخر فدائي من بيروت في 30.8.1982. بعدها بيوم واحد في 1.9 اعلن الرئيس الأمريكي ريغن خطته للسلام, التي ستشبها كثيراً أوسلو فيما بعد.
رحل عرفات الى منفى تونس ومعه ما تبقى من جهاز دولة الفكهاني البيروقراطي وجله من البرجوازية الصغيرة الانتهازية الداعمة لتوجه عرفات. تاركاً خلفه الجهاز العسكري مشتت مبعثر في لبنان والدول العربية ومعه كل مقومات قوته. في هذا السياق صدق الاسرائيليون بقولهم ان حرب لبنان في المحصلة التاريخية هي التي أتت تفاعلاتها بعرفات الى اوسلو ونعشه وان كان ذلك ممكن في حصار بيروت.
www.deyaralnagab.com
|