قرار أممي لا يُطلق سراح غزة من هذا الموت الكثير!!
بقلم : ندى حطيط ... 29.03.2024
بعد ستة أشهر من المماحكات اللغوية ومشاريع القرارات المجهضة بـ«الفيتو» العنيد، تمكّن نادي الجدل المعولم، الذي يدعى مجلس الأمن الدّولي من إصدار قرار أممي يطالب «بوقف فوري لإطلاق النار»، ويشدد على «الحاجة الملحة لتوسيع تدفق المساعدات الإنسانية»، التي تدخل إلى قطاع غزة. القرار الذي لم يكن ممكناً دون امتناع الولايات المتحدة عن التصويت اعتبر – وفق العديد من المراقبين – بمثابة تحوّل نوعيّ في موقف إدارة الرئيس جو بايدن من حرب الإبادة الشاملة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على الفلسطينيين المحاصرين في القطاع المنكوب، وتنطع بعضهم ممن تستضيفهم الشاشات كخبراء بأن القرار سيكون بمثابة ضربة قاضية للحكومة الإسرائيلية اليمينية، التي يقودها مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، وقد تؤدي إلى سقوطها لمصلحة المعارضة.
فهل ستكون لهذا القرار قيمة فعليّة ويصبح بمثابة بوابة شرعت لإطلاق سراح غزّة من سجن الموت الكثير، الذي غرقت فيه؟ وهل يمكن للولايات المتحدة، راعية الدّولة العبريّة منذ إعلان قيامها المشؤوم ذات أيّار/مايو أن تقرّع طفلتها المدللة وتفطمها عن شرب دماء الغزيين؟
وقف إطلاق النار: مزيج هلامي دون قوام
إن فكرة «وقف إطلاق النار»، كما يدرك الملمون بأبجديات الدبلوماسية أداة معقدة تبدو أقرب إلى خيمة متعددة الثقوب لا تمنح الملتجئين إليها سوى وهم الاحتماء. فهذه المعادلة الصعبة التي تقع عند تقاطع الحرب والقانون والسياسة يصعب تعريفها، والتفاوض عليها، ويستحيل – وفق الخبرة التاريخية – ضمان إنفاذها، وتقود في النهاية إلى الموت عطشاً بعد جري منهك وراء سراب «القانون الدولي».
هذا السراب الذي كنا قد لحقنا به عندما رفعت جمهورية جنوب أفريقيا دعوى ضد الدولة العبرية لدى محكمة العدل الدوليّة في لاهاي وانتهى إلى اللا شيء، هو ذاته الذي صدّقته أجيال من العرب الذين عايشوا القضية الفلسطينية والتصقت بذاكرتهم أرقام قرارات مجلس الأمن المتتابعة بشأنها: 181من قرار التقسيم الذي يحمل الرقم 181، إلى القرار الأخير – 2728 – مروراً بعشرات الأرقام الأخرى التي لا تساوي جميعها قيمة الورق الذي استخدم في كتابتها وتوزيعها على الوفود.
يكفي أن نتساءل مثلاً عن عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين عادوا لبلادهم بعد 131 قراراً اتخذها مجلس الأمن الدولي العتيد بين 1967 و1989 لتعالج بشكل مباشر جوانب من الصراع العربي – الإسرائيلي، وكثير منها يتعلق بالفلسطينيين تحديداً. الجواب ليس مفاجئاً: صفر لاجئين.
ولعل هذه الهلاميّة والافتقار إلى القوام التي تعاني منها المشاريع الأممية لوقف إطلاق النار كان أكثر ما يكون وضوحا في مداولات مجلس الأمن والصيغ المتلاحقة التي تحايل فيها الدبلوماسيون على بعضهم لإقناع بعضهم الآخر بالتوافق على قرار ما: بدأنا في 16 أكتوبر/تشرين الأول بـ»وقف فوري ودائم لإطلاق النار يحظى بالاحترام الكامل من جميع الأطراف» إلى «هدنة إنسانية»، فـ»وقف للأعمال القتالية»، ثم «هدنة وممرات إنسانية عاجلة»، وبعدها «وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية» و»وقف مستدام للأعمال العدائية» قبل أن نصل إلى القرار الذي صدر الإثنين الماضي، ويتضمن الدعوة إلى «وقف فوري لإطلاق النار بين الجانبين وتحترمه جميع الأطراف خلال شهر رمضان، على أن يفضي إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار».
وبالطبع فإن القرار صدر بعد مرور نصف رمضان الحالي ما يعني أن فرص تنفيذه لو افترضنا أن ثمة الوهم صار حقيقة بالكاد ستلحق عدة أيّام فقط إلا إذا كانت الصياغة معممة ليقصد بها رمضان مستقبلي تماماً كما في اللعبة اللغوية حول الفرق بين «الانسحاب من الأراضي المحتلة» أو من «أراض محتلة» التي أصابت العرب بالدوار في قرار مجلس الأمن الأشهر – رقم 242 «.
ليس تحوّلاً: «العم سام» لن يبيع إسرائيله
وفق الخدعة المسماة «القانون الدولي»، فإن قرارات مجلس الأمن ملزم لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وهذا يشمل (إسرائيل) بالطبع. فهل ستمتثل الدّولة العبريّة للقرار وترفع سكينها الغارق بالدماء عن عنق غزة؟
لقد سارعت الحكومة الإسرائيلية إلى التعبير عن غضبها، ليس من صدور القرار الذي لا تعيره اهتماماً فكأنه الهباء، وإنما من موقف الأم والمرضعة: أي الولايات المتحدة بالامتناع عن التصويت، ما سمح عملياً بتمرير القرار الأممي الذي كان يكفي لممثل واشنطن أن يسقطه من التداول بلا رجعة برفع يده ملوحاً بحق النقض.
هذا الاحتقار للقرارات الدوليّة الذي تعاقبت عليه حكومات الكيان، يسارها قبل اليمين، مستمر إذاً لأن مجلس الأمن لن يقدم بأي حال على استخدام القوّة ضد الدولة الفاجرة المدللة.
وقد تلجأ بعض الدول إلى اتخاذ إجراءات قد تشمل وقفاً لتصدير الأسلحة أو فرض عقوبات اقتصادية أو إيقاع عزلة دولية عبر سحب البعثات الدبلوماسيّة وما شابه.
على أن كل ذلك لن يكون كافياً بأي شكل لكسر إرادة إسرائيل في ما يتعلق بحرب الإبادة التي تشنها على قطاع غزة، إذ أن غالب العتاد العسكري كما الدعم المادي الذي يتلقاه الكيان العبري ويمكنه من البقاء وممارسة العدوان المستمر ضد الفلسطينيين – وجيرانهم العرب – يأتي من مصدرين أساسيين: الولايات المتحدة، وألمانيا. وبحكم التغلغل العميق للصهينة في أذهان النخب الحاكمة في البلدين، فليس محتملاً في أي مدى منظور أن تقرر أي منهما وقف شريان الحياة الذي تمدانه لإسرائيل. ولذلك فإن الجواب الإسرائيلي على قرار السيدات والسادة المتحذلقين في نيويورك كان في تكثيف عمليّات القتل والقصف واستهداف المدنيين في غزة (وجنوب لبنان أيضاً).
في عام الانتخابات: إغواء «بغل» الرأي العام
لقد بذلت إدارة الرئيس بايدن منذ صدور القرار الأممي الأخير قصارى الجهد للتأكيد لجمهورها المحلي – المائل لتأييد جرائم الدولة العبرية مع فروق ربما بين الأجيال لمزيد من التعاطف الشكلي مع الفلسطينيين – على عدم وجود أي تغيير (نوعيّ) في السياسة الأمريكيّة تجاه إسرائيل، ووصف بعض رموزها قرار مجلس الأمن بأنه غير ملزم. وإن كان ذلك ليس رأي أعضاء مجلس الأمن الآخرين أو ميثاق الأمم المتحدة نفسها.
لكن إدارة بايدن تدرك جيدا أيضاً أن تورطها في هذه الحرب التي طالت تسيء إلى مكانتها دوليّاً وتفقدها بعضاً من الشعبيّة داخليّاً: فهي تعتبر متواطئة في معاناة الفلسطينيين، وعاجزة تماماً عن كبح جماح سلوك إسرائيل في الحرب، ما قد يسهّل مهمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للعودة إلى البيت الأبيض واقتلاع العجوز الخرف، بايدن، منه.
ولذلك فإن مبدأ الامتناع عن التصويت، والسماح بتمرير قرار فارغ من المضمون عبر مجلس الأمن سيساعد الإدارة الحالية على إغواء (بغل) الرأي العام وإقناعه بأن بايدن يبذل جهوداً خارقة للتأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي المشاغب، وبالتالي التخفيف من تضرر السمعة الذي جلبته أرواح 35 ألف شهيد فلسطيني مظلوم.
لكن بايدن نفسه وصف فكرة وضع شروط على استمرار تدفق المساعدات العسكريّة إلى الدولة العبرية كوسيلة للضغط لوقف المذبحة بأنها «مثيرة للاهتمام»، لكنه لا ينوي ترجمتها إلى سياسة معتمدة، لا سيما وأن الإدارة الأمريكية لا تعتبر الجيش الإسرائيلي يتجاوز في حربه على متطلبات حماية المدنيين في الحروب كما ينبغي وفق ذلك اللعين المسمى بـ»القانون الدّولي».
إذن هذا الـ 2728 ليس في المحصلة إلا قراراً آخر من تلك التي خبرنا وعرفنا، سراب يرسمه تظاهر الدبلوماسيين بالقلق من المعاناة الإنسانية، لكن لا طائل من ورائه، ومناورات انتخابيّة الهوى في سنة الاقتراع الدوري لتبديل الأقنعة في بلاد العم سام، وليس هنالك أدنى أمل بأن سخط بايدن المزعوم على خطط الهجوم الإسرائيلي على رفح – آخر ما تبقى من القطاع – سيسرع من رحيل المجرم نتنياهو، أو يخفف من قبضة القاتل على عنق القتيل.
وكل قرار أممي، والحالمون بخير.
www.deyaralnagab.com
|