logo
المقاومة أمام قرارات حاسمة ومصيرية!!
بقلم : سهيل كيوان ... 27.03.2025

مرة أخرى تمرّ القضية الفلسطينية في مرحلة مفصلية فارقة. تاريخ القضية الفلسطينية عبارة عن انتفاضات وانتكاسات، ثم تجديد قوى واستئناف النضال من جديد، وفي كل مرة يأخذ شكلا آخر، وتتشكّل كوادر وقيادات جديدة، تحقق بعض إنجازات، تليها انتكاسات ونهوض مرة أخرى، وهذا سوف يستمر إلى أن يشاء الله غير ذلك.
هكذا كان منذ بدايات التمرّد على الاستعمار البريطاني منذ عام 1920 ثم في عام 1928 وثورة 1936 إلى رفض قرار تقسيم فلسطين عام 1947 واندلاع الحرب، التي تمخضت عنها نكبة عام 1948، ثم تأسيس منظمة التحرير عام 1964، ثم حرب 1967 ونتائجها الكارثية.. ثم مذبحة أيلول الأسود عام 1970 في الأردن، والمشاركة في الحرب الأهلية في لبنان، ثم حصار بيروت عام 1982، واضطرار منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة المرحوم ياسر عرفات على الخروج من لبنان، ثم انطلاق الانتفاضة الأولى عام 1987، وتأسيس حركة حماس في قطاع غزة، ثم اتفاقات أوسلو عام 1993 والانتفاضة الثانية عام 2000. في نوفمبر 2004 وفاة الرئيس ياسر عرفات.. في 2005 فوز حماس بأكثرية في انتخابات التشريعي، ثم سيطرتها على مقاليد الأمور في قطاع غزّة عام 2007 بعد صدامات مسلحة مع فتح. خلال حكم حماس في قطاع غزة شنّت إسرائيل عدداً من الحملات العسكرية، عام 2008، وفي عام 2014 وفي عام 2021.
في صبيحة السابع من أكتوبر 2023 دخل الصراع مرحلة جديدة وغير مسبوقة، فقد شنّت حركة المقاومة الإسلامية أكبر وأشرس هجوم عسكري عرفته إسرائيل في تاريخها ومنذ تأسيسها. وهو يختلف عن كل ما سبقه، بما في ذلك حرب أكتوبر عام 1973، التي بادرت لها مصر وسوريا لتحرير أراضيهما المحتلة منذ عام 1967، ودارت رحاها على جبهات قناة السويس والجولان بعيداً عن المدنيين الإسرائيليين.
**العدوان يتفاقم في الضّفة الغربية والقدس، رغم عدم وجود أي محتجز أو أسير إسرائيلي هناك! فالهدف هو الأرض، بلا أيّ اعتبار لقوانين دولية أو اتفاقات موقّعة
هذه كانت أول مرّة في تاريخ الاحتلال منذ تأسيس إسرائيل، يجري فيها احتلال مستوطنات مأهولة، ودخول مقاتلين بهذه الأعداد بضعة كيلومترات داخل ما يُعرف بالخطّ الأخضر، وهو ما لم يحدث من قبل، كلّ المعارك التي سبقت هذا، دارت خارج الخط الأخضر، وداخل قرى ومُدُن عربية. وكانت المرة الأولى التي يجري فيها نزوح هذه الأعداد الكبيرة من المستوطنين وتفريغ مستوطنات بصورة كاملة، وهذا انتقل إلى الحدود الشمالية بعد دخول حزب الله في ما سُمّي إسناد المقاومة، وما زال أكثر هذه المستوطنات فارغاً من سكانه الذين يرفضون العودة إليها قبل الاستقرار النّهائي للأوضاع. لأول مرّة في تاريخ الصراع يُقتل ويؤسر هذا العدد الكبير من جنود وضباط الاحتلال، خلال ساعات على يد تنظيم كان يسعى لأن يأسر عشرة أو عشرين جندياً في أبعد طموحاته. كانت المفاجأة صاعقة، حول قدرات حماس التنظيمية والاستخباراتية والعملياتية، رغم الحصار الطويل، والرقابة والمتابعة المستمرة والمتطوّرة جدّاً، وهذا شكّل مصدر صراع وخلافات بين مختلف الأجهزة الأمنية في سلطات الاحتلال عمّن يتحمل المسؤولية.
مرّ أكثر من خمسمئة يوم من المواجهة العسكرية، تخللتها هدنات قصيرة اثناء تبادل الأسرى والمحتجزين، تصدت خلالها المقاومة بنجاعة كبيرة لآليات الاحتلال، وأوقعت أكثر من خمسة عشر ألف إصابة بين جنوده، وهذا لم يكن متوقّعاً لدى أيِّ مراقب عسكري من أي طرفٍ كان. منذ بداية الحرب، وعجز الاحتلال العسكري عن حسم المعركة، رغم التفوّق الهائل عدداً وعدة، استخدمت إسرائيل أكثر من مليونين من المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية، وهذا استمر في تصاعد مستمر، رغم الإدانات الدولية وصدور قرار من محكمة الجنايات الدّولية باعتقال رئيس الحكومة نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت. ما زال الاحتلال يمنع دخول الأساسيات من طعام وشراب ودواء وبيوت مؤقتة بصورة منظّمة، وينقض الاتفاقات، إضافة إلى القصف العشوائي للمدنيين ومطالبتهم بين حين وآخر بإخلاء المناطق التي انتقلوا إليها مرّة تلو أخرى، وما يرافق هذه التنقلات من اعتداءات وتنكيل وقصف وقنص وقتل واعتقالات وفظائع.
منذ بداية الحرب يدفع المدنيون الثّمن الأكبر، إذ يجري قصف مربّعات سكنية تقتل وتحرق كل من فيها، وهذا يشمل خيام النّازحين والمستشفيات ومراكز الإيواء. لقد فاق تحمّل الناس المدنيين طاقات البشر. هنالك عائلات كاملة محيت تماماً من السّجل المدني، وهنالك عائلات فقدت عدداً كبيراً من أبنائها، ولم يبق من بعضها سوى طفل أو اثنين أو مُسنٍ، أضف إلى هذا أعداد المشوّهين إلى مدى الحياة، والمفقودين بالآلاف ممن دفنوا تحت الأنقاض، أو في مقابر جماعية لمن تكتشف بعد، إضافة إلى آلاف الأسرى والمعتقلين وما يتعرضون له من تعذيب واعتداءات سادية همجية أدت إلى استشهاد العشرات منهم تحت التعذيب، وما خفي أعظم. يوم الثلاثاء الماضي خرجت مظاهرة في بيت لاهيا هتف فيها المتظاهرون مطالبين بوقف الحرب، ومنها شعارات هاجمت حركة حماس، وممكن أن تظهر مظاهرات مشابهة في مناطق أخرى في قطاع غزّة، وهم بهذا يمثلون مشاعر شريحة كبيرة من السُّكان. جزءٌ منهم يرفض سُلطة حماس من الأساس، وهو من القوى المنافسة والمناوئة لها منذ توليها السُّلطة، والجزء الأكبر بات يرى أنّ الأفق مسدود، ولا إمكانية لوقف المحرقة سوى بتنازلات أكبر من قبل حماس، رغم ما يكنّه قلبياً من احترام للمقاومة، وصبره كلّ هذه المدّة، ورغم معرفته وإدراكه بأنّ الاحتلال هو من يضع العراقيل أمام أيّ اتفاق وينقضه، فالمدنيون باتوا هدفاً مباشراً للقصف العشوائي بأطنان المتفجرات التي تخفي البشر وتذيبهم بالمئات يومياً، من دون أيّة حماية، أو بوادر لتحرّك عربي أو عالمي يوقف هذه الجرائم. لقد فقد أكثر الناس في قطاع غزة بيوتهم بصورة كاملة أو جزئية، و7% من سكان قطاع غزة استشهدوا أو أصيبوا بجراح خلال هذه الحرب، التي تؤكد ساعة بعد ساعة، أنّها حرب إبادة، ارتكب الاحتلال فيها كل أنواع القتل والتنكيل وجرائم الحرب، وأكثر الضحايا هم من الأطفال والنساء والشّيوخ والرجال المدنيين. ما يجري هو محرقة بكلّ معنى الكلمة، ولا أحد يستطيع أو يحق له أن يلوم المقاومة في أيّ موقف تتخذه لإنقاذ الناس.
لا يوجد أي سند حقيقي لقطاع غزّة يعوّل عليه، فالدّول المحيطة القادرة على التأثير، وأهمُّها مصر تكتفي ببيانات تعلن فيها رفضها، أو إدانتها لقتل المدنيين، ولكنّها ومن ورائها جامعة الدول العربية لا تستخدم ثقلها الحقيقي لوقف حرب الإبادة، بل إنّ بعضها يريدها أن تستمر حتى يرى حماس وقد أبيدت بالكامل، حتى ولو كان هذا بثمن عشرات آلاف أخرى من المدنيين.
هذه الحكومة الفاشية تتّخذ من الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين ذريعة لممارسة الإبادة كوسيلة ضغط تؤدي إلى التّهجير. صحيح أنّ مصر والدول العربية وغيرها تعلن رفضها للتّهجير، ولكنّها لا تفعل شيئاً حقيقياً لوقف الإبادة، ليبقى الناس بين خيارين، قبول التّهجير أو الإعدام. كل هذا يلقى تأييداً ودعماً كاملاً من الإدارة الأمريكية التي تزوّد الاحتلال بأشد الأسلحة فتكاً. لا قاع للحضيض الذي تصله هذه الحكومة الكاهانية.
العدوان يتفاقم في الضّفة الغربية والقدس، رغم عدم وجود أي محتجز أو أسير إسرائيلي هناك! فالهدف هو الأرض، بلا أيّ اعتبار لقوانين دولية أو اتفاقات موقّعة، ورغم كل ما تقدّمه سُلطة رام الله من خدمات أمنية لدولة الاحتلال، فإنّ الاستيطان في تفاقم مستمر، والاعتداءات والاعتقالات والقتل والهدم يجري على قدم وساق، والحديث عن حلّ سلطة رام الله والتخلص منها بات واضحاً ومعلناً. حكومة الاحتلال الفاشية تنقضُ الاتفاقات على الجبهة اللبنانية، وتدير ظهرها للوسطاء وللحلفاء، ولا تتوقّف يومياً عن الغارات والقتل والتدمير في لبنان، رغم عدم وجود محتجزين ولا أسرى إسرائيليين في لبنان. هذه الحكومة الفاشية توسّع من عدوانها على الأراضي السّورية، وتطالب بنزع السّلاح في كلِّ جنوب سوريا، واحتلت مساحات جديدة، مستغلة المرحلة الانتقالية هناك بين نظامين لتحقيق أطماع توسّعية على الأرض، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ إلى أين ممكن أن تصل الأمور على هذه الجبهة إذا ما استمر الاحتلال في استفزازاته وتوسّعه وعدوانه، رغم عدم وجود أيِّ محتجزين أو أسرى إسرائيليين في سوريا.
بلا شكّ أن المقاومين في قطاع غزّة مستعدون للمواجهة حتى النهاية، وقد أثبتوا تعلّقهم وإيمانهم بعقيدتهم واستعدادهم لتقديم أرواحهم رخيصة في التّصدي لآلة الحرب الهائلة وإيلامها، وقد دفعت المقاومة معظم قادتها العسكريين والسّياسيين وأسرهم في ساحات القتال، ومع النّاس في الخيام وفي بيوتهم وفي الأنفاق وفي المستشفيات ومراكز الإيواء. وبعد كلّ هذا لا أحد يستطيع أو يحق له لَوْم المقاومة ومن معها في أيّ موقف وقرار تتّخذه لإنقاذ الناس من المحرقة التي يتعرضون لها.


www.deyaralnagab.com