logo
كي لا ننسى: ماذا ترك لنا آل الأسد؟
بقلم : د. فيصل القاسم ... 10.05.2025

لو أحصينا عدد الشعارات التي رفعها النظام السوري الهارب والتي تدعو إلى الوحدة على الصعيدين الداخلي والعربي على مدى أكثر من ستين عاماً لوجدنا أمامنا آلاف الشعارات التي كانت تغطي جدران سوريا من أقصاها إلى أقصاها، فقد كانت تلك الشعارات «الوحدوية» تحاصر السوريين من كل حدب وصوب، وكانت ترفرف على واجهات المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية وخلفيات السيارات. وليس عندي شك أن تلك الشعارات أو الأقمشة واللوحات الخشبية والمعدنية التي استخدمها النظام لكتابة تلك الشعارات عليها كلفت ملايين الدورات من الميزانيات السورية على مدى عقود. وحدث ولا حرج عن الخطاب الإعلامي الذي ساد فترة حكم آل الأسد، فقد كان يفطر السوريون «وحدة»، ويتغدون «وحدة» ويتعشون «وحدة» ويتحلون «وحدة» برز بحليب، مع ذلك اكتشفنا بعد سقوط النظام أن «الوحدة» التي كان يروجها النظام ووسائل إعلامه وتُقحمها على نواظرنا ومسامعنا ليل نهار كانت لذر الرماد في العيون والضحك على الذقون، فقد كان حافظ الأسد ومن بعده ابنه الموتور ألد أعداء الوحدة بمفهوميها السوري والعربي، فكيف يمكن أن تكون نظاماً طائفياً وأقلوياً وعصبوياً وفي الآن ذاته نظاماً وحدوياً. مستحيل، فهناك تناقض طبيعي بين الوحدة والعصبية السياسية أو الطائفية.
لا شك أن معظم السوريين يعرفون أن النظام الساقط كان يمارس التفرقة ودق الأسافين والتطييف داخل الطائفة التي كان يزعم أنه ينتمي إليها ألا وهي الطائفة العلوية. مخطئ من يعتقد أن العلويين كانوا كتلة واحدة، لا أبداً، بل كان داخلها أفخاذ وعشائر متناحرة مثلها مثل كل الطوائف والمذاهب الأخرى، فليس كل العلويين كانوا بمرتبة واحدة لدى آل الأسد، بل كانت هناك عائلات وعشائر، بعضها كان يحظى بالعناية والرعاية، والبعض الآخر كان منبوذاً ومغضوباً عليه. وقد كان آل الأسد يعادون بعض العشائر العلوية أكثر مما يعادون الطوائف والمذاهب السورية الأخرى، وبالتالي فإن كل الشعارات الوحدوية التي ضحكوا بها على السوريين على مدار حكمهم كانت شعارات مزيفة وكاذبة. وكل السوريين يعرفون أن النظام القومجي الوحدوي المزعوم كان يرفع شعارات عربية عريضة تدعو إلى توحيد العرب من المحيط إلى الخليج، بينما في الحقيقة كان يحكم على أساس دون الطائفي، أي أنه لم يكن حتى طائفياً بالمعنى الشامل للكلمة، بل كان يضرب مكونات الطائفة الواحدة وحتى العائلة الواحدة بعضها ببعض.
كانت لعبة النظام المفضلة تخويف مكونات الشعب السوري من بعضهم البعض ودق الأسافين بينهم وجعلهم مرتابين من الآخرين على الدوام
ولم تقتصر هذه اللعبة القذرة على التلاعب بأطياف الطائفة العلوية فحسب، بل انسحب على بقية الطوائف والمذاهب. وكانت لعبة النظام المفضلة تخويف مكونات الشعب السوري من بعضهم البعض ودق الأسافين بينهم وجعلهم مرتابين من الآخرين على الدوام. وأتذكر مثلاً أن رئيس المخابرات العسكرية في المنطقة الجنوبية الضابط سيئ الصيت وفيق ناصر كان يفعل كل ما بوسعه لضرب الموحدين الدروز بجيرانهم المسلمين في حوران المجاورة، لأنه هو ونظامه الهالك كان يخشى أي نوع من التعاضد والتلاحم بين أي مكوّنيّن سورييّن، فقد كان وفيق ناصر يأتي إلى الشباب الدروز في السويداء ويقول لهم إن أهل درعا سيهجمون عليكم وسيقتلونكم وسيهدمون منازلكم، لهذا من الأفضل لكم أن تتحالفوا معنا كي نحميكم من غدر جيرانكم. وكان يفعل الشيء نفسه مع سكان درعا ليحرضهم على جيرانهم الموحدين الدروز، مع ذلك فقد فشل النظام في تأليب الدروز على أهل حوران والعكس صحيح. ولعل أخطر الأسافين التي دقها النظام كانت بين العلويين وبقية مكونات الشعب السوري، فقد كان يدعمهم لترهيب السوريين والتنمر والتسلط عليهم حتى من خلال اللهجة العلوية وحرف القاف تحديداً، فقد كان بقية السوريين على مدى نصف قرن يرتعبون عندما يسمعون شخصاً يتحدث باللهجة العلوية المتسلطة، لأنه كان يمثل وقتها إرهاب السلطة وجبروتها وإجرامها. لم يكن حافظ الأسد ولا ابنه من بعده يهمه مدى الضرر الذي سيقع على الطائفة العلوية بعد سقوطه. لقد كان يستخدمها فقط لتحقيق أطماعه السلطوية ضد السوريين، وليأتِ الطوفان عليها بعد سقوطه. وهذا ما حصل، ولا شك أن المكونات السورية تحتاج زمناً طويلاً كي تدفن أحقادها لأن حجم الحقد والكراهية التي زرعها آل الأسد بين السوريين كان مرعباً للغاية.
وقد تندر الكاتب السوري الراحل نبيل فياض الذي كان أحد أذرع أجهزة الأمن لتفكيك المجتمع السوري، تندر بعد اندلاع الثورة قائلاً أمامي: «عجيب يا أخي، خمسون عاماً من الشعارات الوحدوية والبعثية والأدلجة الحزبية والتلقين والتدجين لم تنجح في جمع السوريين على قلب رجل واحد، لا بل إن النظام فشل حتى في جمع السوريين حول أي شخصية وطنية أو قيادية، بدليل أن غالبية السوريين راحوا يتجمعون ويلتفون حول قياداتهم الطائفية والمذهبية والدينية والقبلية والعشائرية، بدل التجمهر حول قائد وطني جامع». طبعاً لم يكن ذلك مفاجئاً، فقد كان الهدف الأول والأخير للنظام الذي كان يتشدق بالشعارات الوحدوية زوراً وبهتاناً تفريق السوريين وتأليبهم على بعضهم البعض كي يعيش هو على تناحرهم وتناقضاتهم، ولعلنا نتذكر أنه في بداية الثورة فإن كل الشعارات الطائفية التي انتشرت آنذاك كانتشار النار في الهشيم كانت من صناعة أجهزة المخابرات السورية، وخاصة شعار «المسيحي على بيروت والعلوي على التابوت»، وذلك لضرب السوريين بعضهم ببعض كي تفشل ثورتهم ضد النظام الغاشم. باختصار، فإن النظام الساقط لم يحرق فقط الشجر والحجر، بل دمر أيضاً النسيج الوطني نفسه.
وعندما تنظر اليوم للأسف إلى التفكك الخطير للمجتمع السوري لا بد أن تسأل: هل يقف الذباب الإلكتروني فعلاً وراء السُعار الطائفي والصراعات العقدية والتناحر الاجتماعي المتفشي على مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام، أم إن كل ذلك من رواسب ومخلفات وإرث نظام البعث البائد؟


www.deyaralnagab.com