لماذا وحدتهم الوطنية مُقدسة ووحدتنا مُدنسة؟!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 24.05.2025
في عام ألفين واثنين فقدت الوزيرة البريطانية آن وينترتون منصبها كمتحدثة باسم رئيس حزب المحافظين لشؤون الزراعة بسبب نكتة سخيفة. فقد تهكمت الوزيرة أثناء تناولها الغداء مع مجموعة من الأصدقاء والصحافيين في أحد الأندية الرياضية على إحدى الجاليات الأجنبية في بريطانيا. وكانت النكتة على الشكل التالي: «هل تعلمون لماذا رمى شخص إنكليزي مهاجراً من الجالية الفلانية من نافذة القطار وهو مسرع، لأن كل عشرة منهم في بريطانيا يساوون بنساً (فلساً) واحداً». لم تكن تدرك سعادة الوزيرة أن تلك النكتة السمجة ستصل إلى الإعلام وستطردها من الحكومة، فقد تقصد أحد الصحافيين الذين كانوا يتناولون الغداء مع الوزيرة، نشر النكتة التي روتها الوزيرة، وبعد ساعات فقط من وصول النكتة إلى وسائل الإعلام كان رئيس حزب المحافظين إيان دنكين سميث وقتها على الهاتف ليطلب من الوزيرة تقديم استقالتها فوراً، وإذا لم تفعل فوراً، فسيخرج هو على الملأ ليطردها بنفسه. وقد برر سميث قراره السريع والحاسم بأنه يُمنع منعاً باتاً التلاعب بالنسيج العرقي والطائفي والاجتماعي في بريطانيا. أو بعبارة أخرى فإن الوحدة الوطنية في البلاد خط أحمر لا يجوز لأحد تجاوزه مهما علا شأنه، وأن أي مس به سيعرّض صاحبه لأقسى العقوبات.
وقد سنت الحكومة البريطانية وغيرها من الدول الأوروبية قوانين صارمة جداً لمكافحة العنصرية والطائفية والتحزب العرقي والديني، بحيث غدا النيل من الأعراق والطوائف والإثنيات والديانات في البلاد جريمة يُعاقب مرتكبها عقاباً أليماً، فالشحن الطائفي والعرقي والإثني والمناطقي والديني ممنوع منعاً باتاً في الغرب، وأن أي محاولة لشق الصف الوطني أو إضعاف التلاحم الاجتماعي جريمة لا تغتفر في الأقاليم الغربية. إن الوحدة الوطنية في أوروبا وأمريكا شيء مقدس، والويل كل الويل لمن يحاول التلاعب بها.
لقد حاولت الحركات الانفصالية في أوروبا كثيراً الاستقلال، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً في بريطانيا، وفرنسا، وإسبانيا، وغيرها. فبالرغم من لجوء منظمة الجيش الجمهوري الإيرلندي إلى العنف لعدة عقود من أجل فصل إيرلندا الشمالية عن بريطانيا إلا أنها لم تنجح، وقد وجدت نفسها مضطرة أخيراً للتفاوض مع التاج البريطاني والتخلي حتى عن سلاحها. صحيح أن منظمة الباسك الإسبانية ما زالت تحاول الانفصال، لكن الحكومة الإسبانية لن تحقق لها مرادها. وكذلك الأمر بالنسبة للكورسيكيين في فرنسا. ولا ننسى أن هناك ولايات أمريكية تسعى منذ زمن بعيد للاستقلال عن واشنطن كولاية كالفورنيا، لكن الاستقلال ما زال حلماً بعيد المنال بالنسبة لها.
*الشحن الطائفي والعرقي والإثني والمناطقي والديني ممنوع منعاً باتاً في الغرب، وأن أي محاولة لشق الصف الوطني أو إضعاف التلاحم الاجتماعي جريمة لا تغتفر
لكن في الوقت الذي تحافظ فيه الدول الغربية على نسيجها الوطني واللحمة الداخلية وتحميهما من التفكك بضراوة عز نظيرها نجد أن التلاعب بالوحدة الوطنية في بلادنا أسهل من شرب الماء. وعلى ما يبدو أن هناك أيادي خارجية تريد أن تطبق النموذج العراقي التفكيكي على الشعب السوري، فبدل أن يستمتع السوريون بهذا النصر التاريخي على أعتى عصابة حكمت البلاد، راح البعض يثير الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية، ويحرض المكونات السورية على بعضها البعض، فامتلأت مواقع التواصل بالمحرضين والمؤججين. صحيح أن تحقيقاً لهيئة الإذاعة البريطانية قد أظهر أن هناك جهات خارجية أغرقت مواقع التواصل بمنشورات طائفية لتأليب السوريين على بعضهم البعض ودق الأسافين بينهم، إلا أن بعض السوريين من كل الأطراف، أو الذين يمكن أن نسميهم بأعوان الذباب الإلكتروني، شاركوا ومازالوا يشاركون في هذه الحملة الشيطانية لضرب الوحدة الوطنية وتحويل النصر إلى وبال على السوريين وإثارة البلبلة في الشارع السوري بهدف تفريق السوريين وبالتالي الدفع في اتجاه تفتيت البلد.
إن الشبيحة الجدد من كل المكونات السورية بكل فئاتهم وألوانهم وتوجهاتهم يهددون النسيج السوري، وإذا كان من الصعب وضع حد للذباب الإلكتروني الخارجي، فمن السهل إيقاف الشبيحة والمحرضين الجدد في الداخل والخارج من كل المكونات السورية عند حدهم لأنهم معروفون للجميع ويشكلون خطراً على كل السوريين دون استثناء شعباً وحكومة. ضعوا حداً لهؤلاء أينما كانوا ومن أي مكون سوري كانوا، وكفاكم تساهلاً مع المحرضين من كل المكونات السورية، ففي أحيان كثيرة تكون المصلحة الوطنية أهم من حرية التعبير بألف مرة، لهذا فلتصدر قوانين ساحقة ماحقة في سوريا لتجريم كل الذين يستغلون حرية التعبير للشحن الطائفي ونشر الكراهية وإثارة الفتن وزرع الشقاق بين السوريين. اضربوا بيد من حديد على المحرضين من كل المكونات السورية. لا تستثنوا أحداً كائناً من كان، اقمعوهم بكل الوسائل، أخمدوا أصواتهم بكل الأدوات والطرق المشروعة ولا تتساهلوا مع أحد. ولتكن العقوبة سجناً مؤبداً وأعمالاً شاقة، وإلا فإن سوريا ستذهب، لا سمح الله، الى صراعات لن تبقي ولن تذر.
إن أوطاناً تسكن على هذا الصفيح الساخن الطائفي البغيض وهذا التنوع العرقي الكثير، لا بد لها من انتهاج سبيل قويم غير ذلك الطرح العليل من تأجيج النيران وإثارة النعرات، وإيجاد كافة السبل للم شمل الأوطان وتوحيدها وتعزيز لحمتها لا توتيرها وتجييشها الذي سيذهب بالجميع إلى الجحيم. ومن هنا كانت القوانين المتشددة في الغرب حيال هذا الموضوع الحيوي والهام الذي يجب أن يبقى حصيناً وبعيداً عن متناول العباد.
وفي الوقت الذي نحيي فيه الآخرين على غيرتهم العظيمة على وحدتهم الوطنية نناشدهم ألا يعبثوا بوحدتنا وأن يتوقفوا عن ألاعيبهم التقسيمية الشيطانية التي دفعت الشعوب ثمنها من استقرارها، ودمائها، وخبزها وحريتها.
كما نناشد مثقفينا وإعلاميينا ومعارضينا وسياسيينا أن يتعلموا من الدول الغربية التي تدافع عن وحدة بلادها بالحديد والنار، وهي على حق، فلا قيمة لأوطان تسكنها طوائف وملل ونحل وقبائل وبطون وأفخاذ متناحرة وتنام وتصحو على الصراعات الطائفية والدينية والعرقية القاتلة وتمضي وقتها بالتهديد والوعيد، وتلهي نفسها بثقافة التخوين والتكفير.
www.deyaralnagab.com
|