logo
غزة… اسم يخترق الجدران!!
بقلم : توران قشلاقجي ... 03.07.2025

على خريطة العالم، ليست غزة مجرد بقعة صغيرة من الأرض محاصرة شرق البحر المتوسط، بل أصبحت اسما مشتركا محفورا في ذاكرة شعوب العالم، اسما للمظلومية والمقاومة والسعي نحو العدالة. لا يمر يوم إلا ويردد هذا الاسم صداه في قارة، أو ساحة، أو أغنية ما، أو حتى في اسم طفل.. من أحياء أمريكا اللاتينية الفقيرة إلى شوارع طوكيو المضاءة بالنيون، ينتشر همسٌ في كل مكان: غزة. هذا الاسم الذي يشبه الصرخة الصامتة للكرامة الإنسانية، التي تنبعث من بين الأنقاض، أحيانا يظهر على لافتة، وأحيانا يصبح نشيدا يردده الآلاف خلال حفل موسيقي، أو صلاة، أو غضب.
أعلنت المغنية البريطانية الشهيرة بالوما فيث، أنها ستتبرع بكامل عائدات حفلها المقبل في لندن للعاملين في المجال الصحي، الذين يحاولون علاج الجرحى في غزة. ربما سيُنسى هذا الخبر بعد سنوات، لكن صداه سيظل في ذاكرة غزة: قلب في أقصى العالم، ضوء مسرح، ألقى ولو بصيص أمل صغير في ظلام غزة.
في حقول سومرست الموحلة، صرخ مغني البانك بوب فيلان من على المسرح الضخم لمهرجان «غلاستونبري» أمام الآلاف: «فلسطين حرة!» و»الموت لجيش الاحتلال الإسرائيلي (IDF)!». كما ردد الموسيقي الأمريكي مارك ريبيلت هتافات مماثلة في المهرجان نفسه. هناك، بين الشباب المنتشرين على العشب، اتضح مرة أخرى أن الضمائر لا تعترف بالحدود الجغرافية.
*بعض الأسماء قادرة على اختراق الجدران، والتردد في القلوب، وتخطي الحدود. وغزة أصبحت الآن واحدة من تلك الأسماء: ليست اسم مكان، بل اسم للإنسانية
غريب أمر الأسماء… في أحد الأيام، كنت جالسا في زقاق خلفي في إسطنبول مع صديق عزيز، نتناول القهوة ونقلب صفحات الماضي المليئة بالغبار. سألته من دون تفكير: «لماذا سميتَ أنت باسم الجزائر؟» في تلك اللحظة فهمت أن بعض الأسماء لا تُختار لمجرد أنها أعجبت الآباء والأمهات، بل هي ثورة، أو دين ضمير. في أواخر الخمسينيات، حملت أمه عار صمتها على جرائم فرنسا في الجزائر، فسمت ابنها «الجزائر» كي يحمل هذا الاسم ذكرى ما حدث. «على الأقل ليكن اسمك تذكرة!»، ربما قالت ذلك. عندما بحثت على الإنترنت، اكتشفت أن المئات من الأطفال في تركيا سُمّوا «الجزائر» في تلك الفترة. لو نظرت إلى السجلات الرسمية، ستجد أن أكثر من ألف شخص في تركيا يحملون هذا الاسم. كل واحد منهم حمل شعلة الغضب، التي لا تنطفئ في قلوب آبائهم وأمهاتهم، لينقلوها عبر الأجيال..
اليوم يتكرر المشهد باسم آخر، في كل أنحاء تركيا، يُسمى الأطفال باسم مدينة تنمو تحت ضجيج طائرات الحرب: غزة. في ممرات المستشفيات، وعلى طاولات دوائر النفوس الباردة، يكتب الآباء والأمهات هذا الاسم بأقلام مرتعشة: غزة. هذا ليس مجرد اسم، بل هو دعاء يجمع بين العجز والعار والأمل والمقاومة في حروف قليلة. يعرف الآباء والأمهات أن تلك الأيدي الصغيرة ستنمو يوما ما. عندما ينادي المعلم اسم «غزة» أثناء التسجيل، سيقف طفل في زاوية الصف. ربما يسأله أصدقاؤه عن سبب تسميته بهذا الاسم، وعندما يكبر ذلك الطفل ويعرف معنى اسمه، سيتذكر كيف عاش أطفال آخرون في مكان لم يره قط.
«غزة» في العربية تعني القوة والصمود. كم هو جميل أن يحمل هذا الاسم ليس فقط اسم مكان، بل أيضا سمة شخصية في مصير ذلك الطفل. هذا الاسم يحمل مسؤولية كبيرة على عاتق من يحمله، كما أنه لا يُسجل فقط في سجلات المواليد، بل أيضا في ضمير الأمة.
اليوم، غزة موجودة في أغنية بالوما فيث، وفي صرخة بوب فيلان، وفي مقهى في إسطنبول، وفي الهمسة التي تسمعها أم في أذن رضيعها: نور يلمع في الظلام، اسم مدينة محاصرة محفور في ضمير العالم. ربما في يوم ما.. لن تُذكر غزة فقط بأنقاضها، بل أيضا بأطفال كبروا يحملون اسمها وهم يهمسون بأمل للعالم. لأن بعض الأسماء قادرة على اختراق الجدران، والتردد في القلوب، وتخطي الحدود. وغزة أصبحت الآن واحدة من تلك الأسماء: ليست اسم مكان، بل اسم للإنسانية.. إذا انتصر الأمل يوما، فسيقدم الأطفال الذين يحملون هذا الاسم أجمل إجابة للعالم. ونحن نحلم بهذا اليوم منذ الآن: غزة.. كالدعاء، كالأغنية، كابتسامة طفل.. لا تُسكتوها أبدا..


www.deyaralnagab.com