logo
اعترفوا بالدولة… فمتى يتحرّكون لوقف الإبادة؟
بقلم : د.جمال زحالقة ... 25.09.2025

بتوازٍ مع التصعيد الإسرائيلي الإجرامي في حرب الإبادة واندفاع الدبابات والمجنزرات والجرّافات في مدنية غزة، بهدف معلن لتهجير أهلها ولتدميرها ولجعلها موقعا غير صالح للحياة الآدمية، وفي الوقت الذي تتفاقم فيه المجاعة وترتفع فيه أعداد “شهداء الجوع”، وتبحث فيه العائلات عن لقمة خبز وبعض الماء النظيف، وأمام المنظر الفظيع للجثامين البشرية الملقاة في الشوارع، لأطفال ونساء وشيوخ ورجال وفتيان وفتيات؛ شُدّت الأنظار إلى مشهد مختلف في مدينة نيويورك، حيث عقد مؤتمر “حل الدولتين” برئاسة سعودية وفرنسية مشتركة، بهدف إعادة إحياء الفكرة، قبل أن تموت وبغية منع السلطة الفلسطينية من الانهيار، ومنحها فرصة لمواصلة الحياة ولو بالتنفّس الاصطناعي.
وعلى أرض الواقع الفلسطيني النازف، يبقى الاعتراف خطوة رمزية معنوية محدودة الأثر، إذا لم يتبعها فورا عمل جاد لوقف الإبادة التدمير في غزة، ولجم الانفلات الاستيطاني في الضفة. والأخطر من ذلك أن تعتبر “دول الاعتراف” اعترافها بديلا عن التحرك الضروري والطارئ لوقف “الجينوسايد” الإسرائيلي في القطاع.
توالت بمناسبة عقد المؤتمر، إعلانات اعتراف جديدة بالدولة الفلسطينية المستقلة، كان بينها اعترافات فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال والدنمارك وبلجيكا ولكسمبورغ ومالطا وموناكو وسان مارينو وأندورا، وبرز في المقابل “عدم اعتراف” دول مهمة مثل ألمانيا وإيطاليا واليابان، ناهيك عن الولايات المتحدة وإسرائيل ذاتها. لقد وصل عدد الدول التي اعترفت بفلسطين 156 دولة من أصل 193، أي أكثر من 80% من دول العالم، لكن المسألة لا تقتصر على حساب الأعداد والنسب المئوية، بل بتوازن القوى الفعلي (لا النظري) الذي يقاس بقوّة صاحب الموقف مضروبة بما يرمي به من طاقة وجهد لصالح موقفه. هنا نجد أن وزن “عدم الاعتراف” ما زال أثقل بكثير من “الاعتراف”، ببساطة لأن الولايات المتحدة وإسرائيل تلقيان بكل ما عندهما من قوّة وقدرات مادية ومعنوية لضمان تحكّم إسرائيل بمصير فلسطين وشعب فلسطين.
المعضلة إذن، ليست العدد ولا “القوّة الذاتية” للدول المعترفة منفردة، أو مجتمعة، بل بما تدفع به هذه الدول من جهود فعلية وازنة، لإزالة جميع العقبات التي تحول دون إقامة الدولة. ولو توفّرت عند “الدول المعترفة” إرادات ونوايا صادقة لتغيير الواقع المأساوي في فلسطين، لاستطاعت أن تفرض موقفها على إسرائيل. لكن هذه الدول لا تستثمر الّا جزءا يسيرا من قدراتها في هذا السبيل، فمنها من تكتفي بتكرار البيانات، ومنها من “تبادر” إلى اجتماعات ومؤتمرات، ودول أخرى تستنكر وتدين ممارسات الاحتلال، والقليل القليل تبادر إلى خطوات عملية مؤثّرة.
الحق الفلسطيني لا يقوم على الاعتراف من عدمه، بل ينطلق من حق شعب في وطنه وفي تقرير مصيره في وطنه، مثله مثل بقية شعوب الأرض. الاعتراف ـ كما قال كثيرون ـ ليس منّة أو مكافأة، بل استحقاق طبيعي مسنود بالقانون الدولي والقرارات الأممية. وشعب فلسطين، وقبل أن يطلب المساعدة من دول العالم، له الحق الكامل أن “يحظى” بالتزام هذه الدول بالقوانين والمواثيق والقرارات، التي أقرّت وتعهدت بالالتزام بها، بما في ذلك عدم جواز استثناء إسرائيل وقياداتها من استحقاقات الشرعية الدولية. بعد الاعتراف يجب ترجمة مستحقاته على أرض الواقع، وأوّلها وقف حرب الإبادة على غزّة. فمن يريد أن تقوم دولة تشمل غزّة عليه العمل على حماية أهلها من الإبادة والتهجير، حتى يبقى مواطنون على قيد الحياة يسكنون في غزّة، وعلى المحافظة على ما تبقى في القطاع من مبان لم تهدمها بعد “ثقافة التدمير الإسرائيلية”، المستوحاة، جزئيا على الأقل، من سيرة يهوشوع بن نون، ومن رؤية التدمير كفعل عبادي مضاف إلى العمل العسكري. ومن ينشد “السلام” عليه أن يسعى بجدية لوقف الحرب، وإلّا فهو يبيعنا أوهاما وسرابا. فالامتحان الأوّل للاعتراف هو محو خطيئة السكوت والسكون تجاه الإبادة والتدمير، فالعالم يتحمّل مسؤولية استمرار الحرب القذرة، وآن الأوان أن يضغط بثقله الكامل لإنهائها وإنقاذ ما تبقى فيها من مواطنين ومن مقوّمات الحياة في الدولة “المعترف بها”. كما أن على “الدولة المعترفة” أن تضع خطة عملية لمواجهة ما جاء هذا الأسبوع في تقرير لجنة تابعة للأمم المتحدة من أن “الحكومة الإسرائيلية أبدت نية واضحة لفرض سيطرة كاملة على قطاع غزّة وضمان أغلبية يهودية في الضفة”، وعندها ستقوم هذه الدول بالاعتراف بدولة فلسطينية على المرّيخ، مثلا.
الرد الإسرائيلي
في خطابه الطويل أمام جلسة الجمعية العمومية للأمم المتحدة، هذا الأسبوع، انتقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إعلان دول غربية الاعتراف بدولة فلسطينية، وكرر كالببغاء الصيغة الإسرائيلية بأن “الاعتراف هو مكافأة مروّعة لما ارتكبته حماس”. ويمكن اعتبار الرد الأمريكي جزءا من الرد الإسرائيلي، لأن الإدارة الأمريكية قالت بالضبط ما طلبت منها إسرائيل أن تقول، وهذه حلقة إضافية في سلسلة “أسرلة الموقف الأمريكي”. من الناحية اللفظية تعالت في إسرائيل أصوات الاستنكار والغضب والرفض لمسلسل الاعتراف، ومن الناحية العملية بدأ الحديث عن ضم مناطق في الضفة ردّا على تسونامي الاعترافات. لقد ساهم هجوم نتنياهو المنفلت في تضخيم المسألة ومنحه، في المقابل، فرصة لاستغلاله للقيام بضم مستوطنات ومناطق في الضفة. وقد نُشر مؤخّرا أن رون ديرمر، الوزير المقرّب من نتنياهو، قال إن بإمكانه الحصول على مصادقة أمريكية على ضم منطقة غور الأردن. ويقوم مجلس المستوطنات، مدعوما من جهات حكومية إسرائيلية متنفّذة، بإجراء اتصالات بأنصار الاستيطان في إدارة ترامب (وهم كُثر) لتوسيع مساحة الضم لتشمل معظم مساحة الضفة. وفي خضم النقاش الداخلي في إسرائيل حول موضوع الضم، قرر نتنياهو تأجيل البت فيه إلى حين اجتماعه بالرئيس ترامب في لقائهما المرتقب الأسبوع المقبل. لكنّه وقبل اللقاء، شرع في فرض خطوات عقابية وانتقامية عديدة، لعل أبرزها إغلاق معبر الكرامة (جسر اللنبي) ومنع الدخول والخروج من الضفة بشكل مطلق.
أمّا المعارضة الإسرائيلية من يمين ووسط ويسار فقد عبّرت قياداتها عن رفض قاطع للاعترافات الدولية. وصرّح زعيم اليسار الصهيوني ورئيس حزب “الديمقراطيين” يئير غولان: “إنّ الحديث عن دولة فلسطينية، في هذا الوقت وبعد هجوم حماس الإجرامي، هو أمر كارثي لإسرائيل”. واعتبر الرئيس الرسمي للمعارضة الإسرائيلية، عضو الكنيست يئير لبيد، زعيم حزب “يش عتيد”، الاعترافات “مصيبة سياسية.. وجائزة للإرهاب. وعلى المنوال نفسه جاءت تصريحات بقية زعماء المعارضة ليبرمان وأيزنكوت وبينيت.
لم يكتف بيني غانتس، زعيم حزب “أزرق أبيض”، بالبيانات، وكتب مقالا مطوّلا، نُشر على رأس الصفحة الرئيسية لموقع صحيفة “نيويورك تايمز”، جاء فيه أن هناك إجماعا في إسرائيل في معارضة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، منتقدا تسرّع دول العالم في اتخاذ خطوات ردا على نتنياهو الشخص، في حين أن الاعتراف يمس ما سمّاه “الإجماع الأمني الإسرائيلي”. وإمعانا في الصلافة الإسرائيلية المعهودة كتب غانتس متسائلا: “السؤال الحقيقي هو هل سيحترم المجتمع الدولي قرار الأغلبية الساحقة من 99 من أصل 120 عضو كنيست صوتوا بديمقراطية على قرار أن إسرائيل تواصل معارضة الاعترافات أحادية الجانب بدولة فلسطينية.. لأنها مكافأة غير مسبوقة للإرهاب، وتمنع أي ترتيبات سلمية في المستقبل”. والمستقبل الذي يتحدث عنه غانتس في مقاله هو احتمال “توسيع الحكم الذاتي المدني”، بشرط الخضوع لامتحان طويل الأمد لإثبات الإدارة السليمة والقدرة على اجتثاث الإرهاب والتطرّف. لقد وجّه غانتس في مقاله رسالة مباشرة بأن قرارات الكنيست أهم من قرارات الأمم المتحدة، حتى في الحلبة الدولية، ورسالة مبطّنة عن جهوزيته للانضمام لحكومة برئاسة نتنياهو مستقبلا.
اعترافات
خلال زيارتي للهند، ردّد أعضاء “حزب المؤتمر”، الذين التقيتهم ما سطّره ببساطة المهاتما غاندي في مقالة صحافية عام 1938 “فلسطين للفلسطينيين كما بريطانيا للبريطانيين”. وكان هذا اعترافا جوهريا، لا دبلوماسيا، بحق شعب فلسطين في وطنه. وتصلح هذه المقولة منطلقا للتعامل مع قضية فلسطين، فهي الأساس وبعدها تؤخذ بعين الاعتبار التطورات الجسام التي حلت بفلسطين وبشعبها. فالدولة التي يجري الحديث عنها في حدود الرابع من حزيران/يونيو هي تنازل تاريخي مؤلم وصعب على كل وطني فلسطيني. لقد كانت المحاولة الأولى للإعلان عن كيان فلسطيني مستقل، قبل سبعة وسبعين عاما بالضبط، بعد إقامة “حكومة عموم فلسطين” برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي باشا، والإعلان عن “استقلال فلسطين”. وحظي الإعلان باعتراف ست دول عربية هي مصر والعراق وسوريا ولبنان واليمن والسعودية. وجاء الإعلان الثاني عن “فلسطين للفلسطينيين” عند إقامة منظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر القدس عام 1964. وبعد إعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988، خلال الدورة الـ 19 للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، اعترفت بالدولة الفلسطينية حوالي مئة دولة خلال فترة وجيزة، كانت بمعظمها إمّا دولا عربية وإسلامية، أو دولا شيوعية أو دول عالم ثالث. تلت ذلك اعترافات متقطعة إلى أن وصل عدد الدول المعترفة إلى أكثر من 150 دولة اليوم. ولم تتراجع عن الاعتراف خلال عشرات السنين سوى المجر وتشيكيا، تبعا لمتغيّرات سياسية داخلية فيها.
بعد الإحساس بالنشوة من مؤتمر “حل الدولتين”، على القيادة الفلسطينية أن تعود إلى أرض الواقع وان تتعامل مع ذاتها بجدية: قسم من مواطنيها يقتلون بالعشرات وبالمئات يوميا، ويعانون من الجوع ومن الاقتلاع. فما هي فاعلة لحماية مواطنيها؟ وما هي فاعلة لحشد “الدول المعترفة” لوقف المجزرة؟ هذا هو الامتحان الحقيقي اليوم.


www.deyaralnagab.com