الأجساد المغتربة!!
بقلم : منتهى عابد ... 27.04.2013
يتفرع الأدب العربي الحديث إلى العديد من الأوجه و المجالات ابتداءً من الشعر المهجري و الكتابات النسائية التي تجلت في صور عديدة كالصحف التي تناولت موضوعات ثورية تخص المرأة و قضاياها في المجتمعات الشرقية,و المثقفات اللواتي خصصن كتاباتهن لتوثيق ذكرياتهن و طموحاتهن من خلال الأحلام التي منعن من تحقيقها أو تجرأن على التحدث باسمها, تلك الأحلام التي كبلت بسلاسل المجتمع و الديانات و التقديس الأعمى للرجولة, و وثقت اخريات تجاربهن عن طريق كتابة روايات و خلق شخصيات تمثل طبقة كبيرة من المجتمع النسائي المضطهد في الوطن العربي. الكاتباتان أحلام مستغانمي و هيفاء بيطار تعتبران من أهم النساء اللواتي استطعن التمرد على بعض قيود المجتمع و طرح بعض القضايا النسائية الشائكة التي أمضت دهراً في طي الكتمان, و أثبتت الكاتبتان أنه رغم عزل هذه القضايا عن وجه المجتمع فإنها لم تنسى و لم يتم تجاهلها إنما كانت هذه القضايا تنتظر المرأة الجريئة المناسبة لتفجير هذه المحرمات.
في كتابها "امرأة من هذا العصر", تناقش بيطار معركة شخصيتها الناجحة اجتماعياً "مريم" مع سرطان الثدي و علاقاتها المتعددة بعد طلاقها من زوجٍ أثمر زواجها به عن طفلٍ و جرحٍ عميقٍ للجسد و الذاكرة, حيث تبدأ روايتها بالصراع مع ماهية احساسها حول تلقي خبر اصابتها بسرطان الثدي و وجوب استئصال نهدها, تقول مريم بعدما أشعلت سيجارة للمرةِ الأولى: "أحسست بأنني في حاجةٍ إلى استعارة مواقف, فأنا لم أعتد على سلوك امرأة مصابة بسرطان الثدي."(8) و بهذا الموقف تقوم بطرح واحدة من أهم القضايا النسائية في العالم العربي و اهماله لأحد أصعب المواقف التي قلما تجد المرأة من يساندها فيها, فهي تشرح اشمئزازها من موقف زوجها الذي ادعى دعمه لها لمجرد احساسه بالواجب تجاه طليقته, هذا الإحساس الذي تولده النزعة الذكورية بوجوب حماية المرأة و الذي ينبع من الإحساس بالسيطرة أكثر من الإحساس بالنخوة. هنا يبدأ الصراع في مخيلة مريم بين شخصيتها الناجحة اجتماعياً و الكارثة التي حلت بها, حيث أصبحت لا تدرك أي النساءِ هي, أتلك التي تحتاج إلى كتفٍ لتستند و تبكي عليه, أم هي التي ستكون المرأة الخارجة من غرفة العمليات ناذرةً نفسها لتوعية و اخبار النساء الأخريات عن صراعها مع السرطان و كيف تغلبت عليه. في ندواتٍ سينظمها الطبيب الذي ستصفق له النسوة غير مدركاتٍ أن انجازاته لم تتعدى المشرط و ابرة المخدر و العملية التي استغرقت بضع ساعات, هن النساء هكذا في هذه المجتمعات, يعدن بامتنانهن لحياتهن على الرجال , هن هكذا النساء, مريضاتٍ بهوس الذكورة, لكن مريم ليست هكذا,في هذه الرواية مريم هي رجلٌ بنهد.
أما معركة أحلام مستغانمي مع الذاكرة فتبدأ في رواية "ذاكرة الجسد" بتقسيم الذاكرة إلى اثنتين, الأولى هي ذاكرة جسدٍ ينقصه ذراعٌ وأمل و الثانية هي ذاكرةٌ عبثية لوطنٍ انتُهكت حرمته من الجرائد و المستعمرين, تقول أحلام: " ألأنّ الجرائد تشبه دائما أصحابها, تبدو لي جرائدنا وكأنها تستيقظ كل يوم مثلنا, بملامح متعبه وبوجه غير صباحي غسلته على عجل، ونزلت به إلى الشارع. هكذا دون أن تكلف نفسها مشقة تصفيف شعرها, أو وضع ربطة عنق مناسبة.. أو إغرائنا بابتسامة". مستغانمي اختارت العبث بمحتويات ذاكرتها و ابداعها لتكتب ما تراه مناسباً متوافقاً مع الرواسب التقليدية المتبقية من مجتمعها الجزائري, و جسدت هذه الرواسب و العقد في شخصيات الرواية, فخالد الذي بسبب قطع يده في المعارك مع الفرنسيين اتجه إلى الرسم و شاءت الصدف و الأقدار أن يلتقي بالفتاة التي سماها بعد خمس و عشرين سنة من انتظارها أو من انتظارِ شيءٍ ما ليربطه بوطنه الذي ما عاد له في الذاكرة أكثر من ضجيج الحزن و أنصاف الانتصارات ,و هذا ما يوضح أن مستغانمي جعلت احداث الرواية فنية إلى حد ما ,فهي تجسد المآثر العربية التي ما زالت تنضح بها خطابات المسؤولين المتنصبين من انتصاراتٍ و تمجيدٍ لشهداءٍ أُرهق دمهم من أجل مبادئ ترقد الآن خلف جدارِ خزنةٍ في بنكٍ أجنبي كما يصف خالد :" قرأت كلّ ما وقعت عليه يدي.. تماماً كما نهبوا كل ما وقعت عليه يدهم." حتى عندما اجترت مستغانمي خالد منقوص الذراع لوصف علاقته مع "كاترين" الفتاة الفرنسية التي قبلت بعجزه في الظلام خلف الكواليس لكنها حاولت أن تتنصل منه أمام المجتمع الفرنسي الذي تحلى بالعنصرية ضد من هربوا من ألم أوطانهم إليه, أوضحت بوصفه تفاصيل روايته للعلاقةِ بينه و بين الفرنسية الجوانب التقليدية التي ما زال يعاني منها كل رجل شرقي, حيث يقول خالد:" كنت أعرف أنها تكره اللقاءات العامة، أو تكره كما استنتجت أن تظهر معي في الأماكن العامة. ربما تخجل أن يراها بعض معارفها وهي مع رجل عربي، يكبرها بعشر سنوات، وينقصها بذراع!"
قصة الحب بين شخصيات ذاكرة الجسد تمثل إلى درجة ما طابع البراءة و الوطنية ,حيث تشذبها مستغانمي بأبدية و جمالية الانتظار, فهي تضع خالد في قوقعة الوقت و تجمد تفاصيل حياته عندما يبدأ بانتظار حياة التي ربما كانت ستظهر و ربما كانت ستتذرع بظرفٍ منعها من القدوم رغماَ عن ارادتها, و لا يستطيع المرء أن يدرك ماهية انتظار خالد, هل يكون انتظاراٌ للفتاة أم لذاكرة الوطن, لاتحاد غربته مع شبابه ام لكل هذه العناصر معاُ. بينما تستخدم بيطار الوقت كسلاحٍ لتمحي و تقتل الوقت, فبينما يعلق خالد في غياهب الذاكرة, تركض مريم مرتديةُ فستاناً من الجرأة البحتة لتصف و ترتب ذاكرتها وفقاً للجلسات الكيميائية لتتخلص من بقايا الورم الذي لم يغير فقط شكل جسدها, بل عبث بشكل ذاكرتها و حياتها, إلا أنها تبدأ من هنا, من الجلسة الكيميائية. فيؤلمها السيروم المعلق في وريدها و يؤلمها أكثر البخيل و أحمد و سامح المعلقين في ذاكرتها و الذين ينسلون منسحبين بهدوءٍ بعد كل جلسةٍ لذاكرة نهدها و روحها كما تذكر "أريد أن أمسح الغبار عن روحكِ لتضيء"(117) .
تبدأ مريم بسرد قصص جسدها بواقيعةٍ بحتة, حيث لا تترك للقارئ مجالاً لإشعال مخيلته بحروف التمني, فهي لا تترك مجالاً للتساؤل عما كان هذفها من معاشرة البخيل, إلا أن جرأتها و كمالية وصفها لعلاقتها التي يصفها المجتمع بالفجور هي أقرب ما تكون إلى حاجتها لأي ذكرٍ ليملأ الفراغ الذي تركه من كانت تناديه بالإله و من حرمها ابنها الوحيد, و إن كان ذلك الذكر أبعد ما يكون عن مفهوم الرجولة, كالبخيل و من تلاه, و هنا لا تترك مريم للقارئ أي مخرج للاستفهام أو التعليق سوى أن يكون القارئ ذكراً لا رجلاً ليبدأ بشتمها بكل الألقاب الدونية التي جعلها المجتمع من نصيب المرأة, ثم تمضي مريم لتنبش من مخيلتها أحد الرجال الذي أثروا في حياتها. سامح, ذلك الذي لم يسحرها بابتسامة أكثر مما سحرها في مناضلته لحرية المرأة و مساواتها مع الرجل, سامح, الذكر الذي التمست هاتفه و قبلته, ليصل بها الهوى إلى الفراش, و لتكتشف أن سطوته لم يقابلها إلا ضعفه الجنسي. تتذكر مريم هذه الأحداث بعد أن تشاهد ابتسامته المتكلفة و تصرفاته المصطنعة على التلفاز, فحتى الرجل الذي كرس حياته ليدافع عن المرأة أثبت عبثية تفكير الرجال حين يسيطر الجنس على عقولهم الشرقية البحتة, الرجال هم الرجال, هم من وضعوا أنفسهم على قمة المجتمع, و هم من لا يتعدى تقكيرهم الجسد و الجنس و الخطيئة.
أحلام تتحدى أكثر التقاليد حرمةَ في المجتمع في سرد روايتها, فهي تكسر شوكة الرجل, و تضعه في خانة اخرى غير التي يولد كل الذكور الشرقيين فيها, فخالد الذي يسكن تفاصيل الرواية هو الذي يقرأ الصحف بحثاً عن أمل, هو الذي يحزن و يبكي و يتذوق ألم الانتظار, هو الذي يعد الثواني للمواعيد و يسجل على مفكرته تواريخ اللقاءات, و هو الذي يبكي بحرقة الطفل مندساً تحت الأغطية و يتذكر أحاديثه مع حياة بالفاصلة و الابتسامة و الصمت. هذه التفاصيل التي خصصت للمرأة دائماً كونها المخلوق الذي اتسم بالضعف و الحنان, يصف خالد ألمه كالنساء قائلاً:" تركت السكر جانبا, وارتشفت قهوتي مره كما عودني حبك".
شخصيتين في روايتين مختلفتين, ذكرٌ و أنثى , و لكن كلاهما يتمتع بتفاصيل الآخر, فخالد هو الحنون, هو الرجل الطفل, هو الذي يحتضن المخدة و يعتصرها ألماً في محاولاتٍ يائسة للتعود على ألم حنينه, و هو الذي يحاول الهرب من أنامل القراء لكي يتملص من الأحاسيس التي جعلته أحلام يتجرعها كرجلٍ على غير العادة, أما مريم فهي التي تواجه المجتمع بنهدٍ واحدٍ و علاقاتٍ متعددة, هي التي تحملق في كل قارئ و هي تتحدث عن ذاكرة نهدها مع الرجال و ذاكرة عقلها مع أولئك الذين عاشرتهم و "عبروا حياتي كبرق ..الرجال الذين جرحوني و داووني من جراحي..و منحوني نعمة أن أحبهم و نعمةً أكبر بان أنساهم. كم كنت أحس بنشوة حين كنت ألتقي مع رجل كنت على علاقة معه و قد نسيته كلياً, و لولا تلك الصدفة التي أقحمته في طريقي لما تذكرته أبداً."(14) مريم هي الرجل في هذه الرواية, فقد زرعت بيطار فيها كل خصال الرجال, ابتداءاً بالنسيان, و مروراً بالتبجح بكمية الرجال الذين عبروا جسدها دون أن يمروا بذاكرتها أو بقلبها, انتهاءً بأولئك الذين جرحوها و نسيتهم بجرة قلم و بوخزة ابرة. هذه السمات التي لم يتجرعها خالد لأن خالقته قررت العبث في جيناته الذكورية بتحويله إلى الرجل المرأة, الرجل الذي لا يستطيع تجاهل النظرة الأولى, اللوحة الأولى و لا الفستان الأبيض الأول.
تتطرق أحلام في روايتها إلى موضوع مثير للجدل كالعادة, حيث يناقش خالد موضوع فلسطين, و برغم قربه من النزاعات التي نهشت تاريخ الجزائر إلا أنه بعيدٌ كل البعد عن القضية الفلسطينية, فالجزائر التي قدمت مليون شهيدٍ في سبيل شهيقٍ واحدٍ للحرية لا تمت بصلة لفلسطين التي ما زالت تفاوض على كرامتها و تمجد انتفاضةً خان فيها أناسٌ أكثر مما استشهدوا, فشتان ما بين وطنٍ ارتدى ثوب الحزن المضرج بالدماء و دولةٌ يتم اقتطاع أجزاءَ من ثوبها في كل مؤتمرٍ يقيمه تجار القضية الذين يتنفسون الوطن على طريقتهم, إلى أن أصبحت فلسطين عاهرةً شبه عارية, لا يستر جسدها سوى بضع وريقات من مفاوضاتٍ هنا و مؤتمراتٍ هناك. هذه القضية التي تعرضها مستغانمي تعبر عن الوطنية و تلمس الشعور المقدس لبقايا الوطنيين في العالم العربي, و للمهجرين و الأجساد المغتربة, لكنها ترسم ابتسامة السخرية على وجه كل الذين يعرفون حقيقة الوطن و يتعايشون مع رائحة القذارة التي تنبع من كل خطاب و مقالة تصف ثورية ووطنية فلسطين سوى ملصقٌ لشهيد و آخر لمرشحٍ انتخابي, حيث تقول في روايتها ما يلخص فلسطين و قضاياها الشائكة:" لن أعتب عليك، نحن ننتمي لأوطان لا تلبس ذاكرتها إلا في المناسبات، بين نشرة أخبار وأخرى. وسرعان ما تخلعها عندما تطفأ الأضواء، وينسحب المصوّرون، كما تخلع امرأة أثواب زينتها." بينما تتطرق بيطار إلى مواضيع تعتبر أهم من فلسطين حيث تخاطب الكاتبة شريحة أكبر من المجتمع لأنها تتحدث إلى كل النساء, بغض النظر عن ديانتهن, انتمائهن أو ثقافتهن, بغض البصر عن تقواهنَ أو ادعائهن للتقوى, سواءً اخترن العهر كعورة في فراش الزوجية أو كعنوانٍ لأرواحهن ليصرخن في وجه المجتمع حد انتهاء الصراخ .
ذاكرتهما المشتركة تتمخض عن تلخيصِ ذاكرة نهدٍ و جسدٍ في روايتين , الشخصيات تبدأ من سجن الذاكرة, حيث تحاول أحداهما الهرب من الذاكرة دون النجاح بذلك و تنجح الأخرى في التملص من ذاكرتها بسهولة, و من جمالية الروايتين أن الرجل علق في الذاكرة و العواطف, بينما سحقت المرأة ذاكرتها و تقاليد مجتمهعا بكعب حذائها المنمق و مشت. تحيي أحلام ذاكرة وطنها في الرواية و تناقش حميمية الغربة التي تهاجم الشخص على هيئة رائحة القهوة و خبز الطابون, و تحبس خالد في ذكرياتها و جسور قسنطينة في كل خطوة يمشيها أو لوحةٍ يرسمها أو نظرةٍ يلقيها من النافذة على باريس, ليبكي وطنٍ احترم اعاقته و اهداه وساماً و خطاباً و ليتسائل عن ماهيةِ بلدٍ احترم لوحاته و اعطاها رونق الابداع و اسكنها في المعارض غاضاٌ البصر عن جراحه و ذراعه الناقصة التي كان البلد الذي احتضنه سبباً فيها, احترمت باريس اللوحات كاعتذارٍ عن الجروح , و مشت الجزائر بعيداً لتنسى ألم خالد أو تتناساه, يعلق خالد في الذاكرة أكثر في كلِ لقاءٍ بحياة و تتخلص مريم من ذاكرتها في كلِ جلسة علاج, لا تترك متسعاً للندم أو التمني فهي تؤمن بما يقوله خالد و لكن لا يصدقه," الندم هو الخطأ الثاني الذي نقترفه."
في قراءتي للروايتين تقمصت أكثر من روحٍ و شخصية, لأن هاتان الروايتان تبدآن من أعماق التناقض و تنتهيان به أيضاً, و لأن النساء يوصلن احساس الأنوثة في بضع كلماتٍ فقط لكل النساء, بيطار و مستغانمي هن الأمل الذي ينبثق من مستنقعات المجتمعات السقيمة, و قراءهن من النساء هن رسولات أولئك اللواتي كرسن حياتهن لرجالٍ تبدأ متعتهم من رأس المعدة و تنتهي بالأفخاذ, النساء اللواتي يحملن أطفالهن على الكتف الأيمن و متعة الجلادين على الكتف الأيسر و يحركن قلوبهن مع الملح و المرق, هذه الأرواح التي تخرج الآن من الروايات التي أقرب ما تكون الى الكتب السماوية هي الخلاص من الجنس المقزز و من انحسار الانوثة في غرف النوم و الأغنيات التي ترددها المراهقات عن الفارس الذي سينقذهن من سطوة أبائهن و أخوتهن , ثم الأغنيات التي ترتل انكسار القلب و تتضرع النسيان, تقول أحلام نقلاً عن خالد: "إنَّ امرأة ذكية لا تثير الشفقة. إنها دائماً تثير الإعجاب حتى في حزنها. وكنت معجباً بك، بجرحك المكابر، بطريقتك الاستفزازية في تحدّي هذا الوطن". هذه المرأة التي أريد أن أكون, و التي تطمح أي امرأةٍ تدرك معنى الحرية ان تكون, لأن مستغانمي وضعت الشفقة في قاموس الرجال, و بيطار جعلت من حزن مريم سلاحاً يبصق في وجه المجتمع, و الاثنتان تشعلان في روحي الرغبة في تخطي كل الذكور و التسلق إلى قمة العالم لأصرخ من قاع الحنجرة و بقايا القلب: لاتعطني حريتي لأني أريد انتزاعها.
المصدر : مركز مساواة المرأه
www.deyaralnagab.com
|