فيلم «الحرام» لهنري بركات… حين يصبح جسد المرأة رمزا للمجتمع!!
بقلم : نسرين سيد أحمد ... 27.01.2018
«الشيطان كتفني، الشيطان كتفني»… هكذا تحاول عزيزة (فاتن حمامة)، الشخصية المحورية في فيلم «الحرام» (1965) لهنري بركات فهم لحظة استسلمت فيها لما يريد جسدها الظامئ، لحظة ملتبسة تماما تحمل في طياتها كل المفاهيم الاجتماعية التي تغرس في عقل المرأة غرسا عن أن جسدها عورة، عن أن جسدها رمز لمفهوم «الشرف»، ليس شرفها وحسب، ولكن شرف المجتمع بأسره، عن أن جسدها حرام، وعن أن الجنس واشتهاءه عيب وحرام ودنس.
هي لحظة يزيد من التباسها أنها لحظة انتهاك واغتصاب أيضا، أيمكن أن تكون عزيزة راغبة فيمن استباح جسدها؟ أترى كانت رغبة جسدها المحروم المتعطش الظامئ حقا، أقوى من قدرتها على مقاومة الجسد العفي الفتي الذي اغتصبها؟ ربما يمكننا القول إن اللحظة كانت مزيجا من الرغبة والرفض، من الاحتياج والاجتياح، من الاشتهاء والمقاومة. لم يكن استسلام عزيزة لذلك الجسد الفائر الرجولة ضعفا، بقدر ما كان تعبيرا عن حرمان جسد مكبوت مغلول، جسد تكبله قواعد العيب والحرام في المجتمع.
كي نفهم هذه اللحظة علينا أن نفهم عزيزة أولا، وأن نعي الإطار الاجتماعي المحيط بها. عزيــــزة امرأة شابة جميلة، امرأة نرى في لمحات يسيرة أنها تحب أن تدلل وتحب أن تعنى بمظهرها، امرأة تعرف أن لها قواما جميلا تحب أن تزينه لزوجها بثياب تبدي بعض حسنه.
ولكن عزيزة حكم عليها أن تتخلى عن أنوثتها، وعن رغباتها لتصبح عصب الدار ورب البيت وجالب القوت والدخل للأسرة. يصبح لزاما على عزيزة أن تنسى أنها امرأة لتعمل في الأرض لتسد رمق الأفواه التي ستموت جوعا إذا لم تعمل هي. لا رجل في حياة عزيزة، بالمفهوم الجسدي الجنسي ولا بالمفهوم الاجتماعي، كالعائل جالب الرزق. أصيب زوجها المزارع بالأجرة بالبلهارسيا، وأصبح غير قادر على العمل. يصبح زوجها معتمدا عليها تماما، ويتوارى في غياهب مرضه، وتتقبل عزيزة المسؤولية وتحملها بجلد وقوة. تصبح عزيزة هي السند والعضد والوتد، تصبح مصدر القوت للزوج والطفلين، وتنسى تحت حملها الثقيل أنها امرأة لها جسد ورغبات.
تعاني عزيزة شظف العيش وتقسو عليها الحياة أيما قسوة، ولكنها لا تسلم من كل الأطر الاجتماعية والأخلاقية التي تدينها وتندد بها، فمع بدايات الفيلم يأتينا صوت الراوي الذي يؤطر صوته أحداث الفيلم (صوت حسين رياض) ليعلن بصرامة القاضي والجلاد أن الفيلم هو «الحرام: قصة خاطئة مصرية». ينبهنا الراوي منذ البداية إلى منظور أخلاقي لعزيزة، منظور يحكم ولا يفهم أو يتفهم. ورغم تفهم الفيلم في سرديته وأحداثه ورؤيته لعزيزة وتعاطفه الشديد مع محنتها وألمها، إلا أننا نحسب أن صوت الراوي المنذر المهدد المصدر للأحكام هو الهفوة ونقطة الضعف الوحيدة في فيلم نعده من العلامات الفارقة في السينما المصرية والعربية.
الحرام وفقا للراوي لم يكن الفقر وشظف العيش، لم يكن المرض بدون وجود المال للعلاج، لم يكن القيل والقال، لم يكن طبقية المجتمع البغيضة التي تجعل حتى من الفقر مراتب، فهناك الفقير المعدم كعزيزة الذي يضطر للعمل في الترحيلة والانتقال من بلاده البعيدة للحصول على القوت، وهناك الفقير الأيسر حالا الذي يبقى في بلدته وسط عائلته. والحرام والخطيئة من منظور الراوي لم يكونا قتل «الضنا»، أو اضطرار عزيزة لإخراس صوت بكائه خوفا من المجتمع. الحرام كما رآه الراوي كان عزيزة ذاتها، عزيزة التي وصمها بالخطيئة ولم يرحمها.
حتى عزيزة ذاتها لم تكن رحيمة بذاتها وكانت جلادا لنفسها. نراها تصم ذاتها بالخطيئة وتحكم على نفسها بأنها مدنسة، ففي حوارها مع الذات ومع الإله في لحظة تخلو فيها إلى نفسها، وهي تحاول إجهاض حملها تقول: «انت عالم بالحال. أنا عارفة اللي باعمله حرام، لكن جوزي عيان والخلق كلها عارفة. أموت نفسي واستريح، بس ده حرام. وهو يعني اللي باعمله ده هو اللي مش حرام!
هو انا عملت إيه بس! الشيطان كتفني. الشيطان كتفني». الحرام كل الحرام هو قيم المجتمع التي تجبر المرأة على تجريم ذاتها، التي تنسي المرأة أنها بشر وجسد ولحم ودم له رغبات، التي تجعل المرأة تنظر فيها إلى احتياجها لجسد فتي على أنه جريمة لا غفران لها، جريمة لا تأتي في وجود شيطان «يكتف» ويسلب الإرادة.
شعور عزيزة بالخطيئة والدنس وعقابها لنفسها لا ينتهيان. نرى قامتها التي كانت ممشوقة قد تهدلت، نرى رأسها المرفوع ليلة عرسها قد انحنى ونظرتها الباسمة الجريئة قد انكسرت. بعد الألوان الزاهية في بداية الزواج نراها متشحة بالسواد الفضفاض الذي يواري حملها. نراها تقسو على جسدها وتحمله ما لا طاقة له به، فتقيد بطنها الحبلى بالأربطة التي تخفي حملها. حتى ألم المخاض تتحلمه بجلد بمفردها وبدون عون. عقاب جسدي تفرضه على نفسها وألم وتمزق نفسي، وخوف من العار والفضيحة يدفعانها إلى كتم صرخات الوليد ليكون موته ذروة عذابات نفسية تنتهي بها إلى الرحيل في ريعان الشباب.
في «الحرام»، الذي كتب له السيناريو سعد الدين وهبة مقتبسا إياه عن روايــــة يوسف إدريـــس بالعنوان نفسه، تقدم فاتن حمامة أداء نحسبه من أفضل الأدوار في السينما العربية قاطبة. أداء بليغا بدون مبالغة، أداء تعتمد فيه فاتن حمامة على الالتفاتة والنظرة وتعبير الجسد لتجسد ما يعتمل في نفس عزيزة.
تقول نظرتها إلى جسد محمد ابن قمرين الفتى القوي وهو يضرب الأرض بفأسه لاستخراج ثمر البطاطا التي اشتهاها زوجها العليل الكثير الكثير. نظرات نلمح فيها كل المشاعر المتضاربة التي تمور بداخلها. علنا لا نبالغ إن قلنا إن فاتن حمامة هي من يحمل الثقل النفسي للفيلم وتأثيره البالغ على عاتقها في أداء قل أن تجود به السينما العربية.
المصدر: القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|